الخيرة في ما لا تختاره
سالم العوكلي
( أخي : ما أروع الإنسان الذي ينتزع السعادة من قلبه لكي يهبها لإنسان آخر .. إني سأرحل عما قريب ولكن أود أن أسمع عنك في يوم من الأيام .. أريدك صوتاً ، أريدك روحاً ، أريدك ذاتْ ) هذه كلمات يرجع تاريخها إلى عام 1979 ، كتبتها زميلتي الطالبة نبيلة سعيد من الإسكندرية في كراسة دونت بها بعض أشعاري المبكرة ، كنا في الفصل نفسه بمدرسة الشهيد فرج بوحويش بالقبة الثانوية المختلطة، حيث اضطررت فترتها رغم شغفي بالأدب للدخول إلى القسم العلمي لعدم وجود قسم أدبي في تلك المدرسة، فلا أحد من الطلاب الذكور كان يرغب في القسم الأدبي، باعتبار الفكرة الدارجة عنه كونه اختصاصا مناسبا للبنات، وأن دراسة العلوم التطبيقية هي خاصية ذكورية ، فدراسة الأدبي لا تخلو من إحساس بالدونية، وكان الطالب يفضل أن يكون راسباً في القسم العلمي على أن ينجح متفوقا في قسم يسمونه قسم البنات، وهو الشعور الذي يدعمه مخططونا التربيون حتى الآن، بتوجيه المعدلات المنخفضة إلى الأقسام الأدبية، وهو الشأن الذي يجعل بلدنا فقيرة في الدراسات الاجتماعية أو كل ما يتعلق بالكيان المعنوي للمجتمع، ما يجعلنا الآن نتعامل مع أزماته بالحدس والارتجال بعيدا عن أي مراجع بحثية أو قاعدة بيانات علمية. على كل ، وجدت نفسي غارقاً في الرياضيات والكيمياء والفيزياء رغم رغبتي الملحة في دراسة الأدب أو اللغة الإنجليزية أو الفرنسية.
أذكر جيداً ذلك الشغف الذي عشته في ملاحقة تلك الكائنات الشفافة في أماسي الربيع الزاخرة بالروائح والألوان، كنت مولعاً إلى حد مرضي بمطاردة الفراشات مستجيباً لإغراء اللون وتنوعه وتلك الرفرفات العذبة التي تنتقل من زهرة إلى زهرة ، وكنت أعتقد في قرارة نفسي أن لا شيء يجسد لي غموض الملائكة سوى هذه الكائنات، وعندما شاهدت أثناء الدراسة، ولأول مرة، معلم الأحياء وهو يقوم بتشريح فراشة، تقوض الجمال في داخلي، وولجت دون أن أدري جدلية معقدة بين مفهومي العلم والجمال، وتكرس لدي رأي مهيمن بأن العلم مناقض للجمال أو عدو له، ونتيجة لولعي المبكر بالأدب والشعر، ووجود نفسي مضطراً لأسباب بيئية لدراسة المجال العلمي، كنت أحاول أن أوفق من جديد بين شغفي وتخصصي، فكنت أتحسس مواقع الجمال في الدراسة العلمية، في المعادلات الرياضية وجمال البرهنة عليها، في علم الاحتمالات، في نظريات الكم والنسبية، وفي المعادلات الكيميائية ذات الاتساق الأخاذ، وفي الوقت نفسه أصبحت أطالع ما يعرف بالمناهج العلمية الصارمة لنقد الأدب، بل الذهاب إلى أن النص الأدبي لا بد وأن يمر على ورشة تنقله فضلاً عن الموهبة إلى ما يمكن أن يسمى بالصناعة، ومنذ حادثة التشريح المريعة وأنا مسكون بحالة من التوجس من هذا السكوت المتبادل بين طرفي الفضول الإنساني القديم، الفن والعلم، فكلاهما يستعرض مفاتنه في ذروة التنابز المثير بينهما أزلي.
كان هذا التداخل الذي بدأته مضطراً يبدو كعزاء أخير لعدم قدرتي على التخصص في مجال شغفي، وهذا الصمت المتبادل بين حقلين، اعتقدت أنهما على طرفي نقيض، كان له دور في بعث أسئلة ما انفكت تلاحقني، خصوصاً أن وتيرة العصر المتسارعة لا تكاد تجيب عن سؤال حتى تحقن الإجابة نفسها بأسئلة أكثر تعقيداً.
مساحة الخيار في الحياة كانت هاجس الإنسان المهووس بالترقي، ومحك حريته وسعادته. ثمة شغف خاص بكل إنسان، والحياة المنصفة هي التي تلبي له هذا الشغف، لكن الإنسان حتى في أكثر مراحله بدائية كان محكوماً بسقف لخياراته تحكمه قوى الطبيعة، وإمكانات الجسد المحدودة، وضغوط المحيط الذي يعيش فيه. وهكذا كمن يسير في صحراء لا يخبرها أجد نفسي عادة في أمكنة لم أقصدها أو أخطط لها.
بعد حصولي على الشهادة الثانوية وجدت نفسي في كلية الزراعة، آخر الخيارات التي كتبتها في الاستمارة التي توزع في منتصف العام كي نكتب فيها أولويات الاختصاصات التي نرغبها، ولكي أنجو بما تبقى من شغفي خططت لمواصلة الدراسات العليا في أحد علوم البيئة المتنوعة، باعتبار صلتها بالجمال والمحيط، ولكن رغم أحقيتي الأكاديمية لم يقبل الطلب الذي تقدمت به أكثر من مرة لاستكمال دراستي العليا، وحتى اليوم لا أفهم السبب وإن كنت أعرفه، ولكن خياراً آخر سقط، ليس أمام قوى الطبيعة، لكن بفعل عنف المؤسسة التي تنمو بتروسها خارج مساحة الخيارات، أو بالأحرى قصور المؤسسة عن رسم خارطة للدروب التي توفق بين رغبة الفرد ورغبة سوق العمل. تذكرت كل ذلك عندما عثرت على كراسة مخطوطي الشعري الأول الذي لا يحمل بالتأكيد قيمة أدبية تذكر، لكنه على الأقل كان يحدد توجها ما، وخياراً لم يستطع أن يقاوم عُقد المجتمع الأبوي التي تعتبر المستقبل والوجاهة يكمنان فقط في الحصول على شهادة طب أو هندسة، ويذكرني ذلك بمقالة الزميل نجيب الحصادي عن أزمة تدريس الفلسفة في الجامعات العربية، التي تعتبر دراستها ترفاً زائداً، باعتبارها لا تلبي حاجة السوق، وأن مستقبل خريجيها لا “يعد سوى بمعلم يكابد شغف العيش” ، وباعتبار أن قيمتها كعلم موازٍ في بناء المجتمع الحضاري لم تكتشف حتى الآن في ثقافتنا.
لقد تمنت زميلتي من الإسكندرية أن تسمع بي يوما شاعراً كبيرا، وبالتأكيد لن تتحقق لها هذه الرغبة، لأنني أشك أن أصبح كذلك، ولأن لا أحد في قريتي يعرف أنني أكتب الشعر، ولأنني متأكد أنها لم تسمع بمواطنها الشاعر أمل دنقل الذي حين سألت صاحب مكتبة شهيرة في القاهرة عن أعماله، قال لي: هي أمل دي بتكتب إيه.
قدر الشعراء أن تحجبهم عتمة الحبر الأسود الذي يحلمون عبره، وتظل مأثرته الوحيدة أنه يتيح مساحة للخيارالذاتي وإن كانت تروس السلطات، السياسية أو الدينية، المذعورة من فكرة الجمال ومن المرح لا تيأس من ملاحقة هذه المساحات.