الخلفيات الاقتصادية لصراع المتوسط وعلاقته بليبيا
المهندس / رمزي الجدي
ما هي اسباب الصراع الحاصل على غاز المتوسط و كيف بدأ؟
ما هي المصالح الاقتصادية للدول الاقليمية المتداخلة في الصراع؟
ما علاقت الصراع بليبيا؟
ان الصراع القائم في ليبيا و مسألة دعم الدول لطرف على حساب طرف آخر، ترتبط ارتباط مباشرة بمصالح اقتصادية فائقة الأهمية لتلك الدول الاقليمية المتداخلة بشكل مباشر وللدول العظمى بشكل غير مباشر. لكن ما يحدث في ليبيا من خطاب اعلامي خاصة في وقت الصراع الحالي عمل على تغييب لوعي المواطن من خلال تصديره للخطاب الشعبوي و الشعارات القومية و الدينية و استحضاره لتاريخ النزاعات بين القبائل و المناطق و المدن و امتدت حتى الي تاريخ الدول الداعمة للإطراف المتناحرة دون التطرق لمصالح هذه الدول او الخوض فيها. و في اغلب الاحيان يتم محاصرة المواطن بأخبار سير العمليّات العسكرية والأمنية فقط و يتجنب بقصد او عن جهل الخوض في البُعد الجيو- سياسي للصراع او الخلفيّات الاقتصادية-المالية لتلك الدول الاقليمية المتورّطة و من يقف وراءها. الامر الذي جعل المواطن ابعد ما يكون عن حقيقة الصراع.
الملف الليبي في بعده الجيوسياسي ملف معقد جدا, و لكن الحقيقة هي ان ليبيا او النفط الليبي ليست الاساس في الصراع, و النفط الليبي لا يشكل اكثر من 1.5% من حجم السوق العالمي و 4.8% من صادرات اوبك. الصراع الحاصل هوعلى مصادر الغاز في مياه شرق المتوسط. ولكن الموقع الجغرافي لليبيا و توسطها لخريطة المتوسط و تفردها باكبر مساحة للمياه الاقتصادية في المتوسط جعلها في لب هذا الصراع في الوقت الذي تعاني فيه ليبيا صراعا داخليا على السلطة منذ سنة 2011, فالخلاف الحاصل الان بين مصر و اليونان و قبرص و تركيا يدور في اساسه حول ترسيم الحدود المائية في المتوسط و كل دولة تطمع في ترسيم حدودي يخدم مصالحها ضمن تحالف يفيدها و يحقق لها اكبر عائد اقتصادي ممكن من غاز المتوسط. و ما يزيد الامر تعقيدا هو تداخل دول اخرى ليست لها حدود مائية في المتوسط و لكن عندما يكون الحديث عن غاز المتوسط تكون اوروبا و روسيا اهم الأطراف حيث يشكل الغاز مادة الطاقة الرئيسة لأوروبا ولهذا فإن السيطرة على حقول الغاز في المتوسط تعتبر بالنسبة للدول المطلة على المتوسط و من خلفها الدول العظمى أساس الصراع الدولي في ليبيا.
بعد اكتشاف كميات كبيرة من الغاز الطبيعي في حقل أفروديت “Aphrodite” في قبرص، وحقول تمارا وليفياثان “Tamara & Leviathan” في إسرائيل, وقعت اسرائيل و قبرص و اليونان سنة 2016 على مشروع خط غاز “East-Med” الذي تعتبر فرنسا و الاتحاد الاوروبي اهم مموليه بتكلفة تصل الي 7.6 مليار دولار, لمد خط انابيب بطول 1900 كم. ويتضمن المشروع بناء خط أنابيب من حقلي ليفاثيان وتمار”Leviathan&tamars” وحتى جزيرة قبرص بطول 200 كم، يعقبها خط أخر وهو اهم مرحلة و التى ادخلت ليبيا في الصراع يربط بين جزيرتي قبرص وكريت بطول 700 كم. ثم خط يصل جزيرة كريت بشواطئ اليونان بطول 400 كم. وأخيرًا خط أنابيب بري سيمتد في اليابسة نحو 600 كم من اليونان وحتى إيطاليا.
و يعتبر مشروع “East-Med” منافس لمشروع السيل التركي “Turck strem” الذي يمد الغاز الي المتوسط عبر تركيا, و مشروع السيل الشمالي “North Stream” الذي يمد الغاز الروسي الي المانيا.
حاول الاتحاد الأوروبي دعم مشروع (East-Med) بالرغم من وجود بعض مواقف دولية لا تخدم دعم الاتحاد للمشروع, كاستمرار ألمانيا في تنفيذ مشروع “North stream2” الذي يعتبر مشروع منافس لمشروع “East-Med” والذي يقلل من جدواه ألاقتصادية كذلك غياب ايطاليا عن مراسم التوقيع على المشروع في أثينا بسبب شكوك ايطاليا في الجدوى الاقتصادية للمشروع و ارتفاع سعر تكلفة الغاز, و تصر فرنسا على أن غاز شرق المتوسط هو البديل الامثل للغاز الروسي وأن مشروع East-Med في أسوأ الحالات سيضعف مساحة المناورة الروسية في أوروبا, الامر الذي يصب في صالح الولايات المتحدة ولذلك قامت الولايات المتحدة و الاتحاد الأوروبي و الدول المستفيدة بمجموعة من الخطوات لدعم مشروع East-Med منها.
1. وقع الكونجرس الامريكي على قانون فرض عقوبات على الشركات الألمانية والروسية التي تنفذ مشروع North Stream2, في قانون ميزانية الدفاع للولايات المتحدة في عام 2020 و التى شملت الشركات الألمانية والفرنسية والهولندية والبريطانية والنمساوية الشريكة في المشروع, إضافة إلى الشركة السويسرية – الهولندية العاملة على التنفيذ, كم تم توقيع اتفاقية بين كل من اسرائيل و الولايات المتحدة لحماية حماية مشروع East-Med.
2. قام الاتحاد الأوروبي بدعم مصر وقبرص للتوقيع على اتفاقية لمد أنبوب لنقل الغاز من الحقول القبرصية إلى محطتي إدكو (استثمار اماراتي بتكلفة 2 مليار دولار) و محطة دمياط (استثمار اسباني بتكلفة 1.2 مليار دولار)لإسالة الغاز الاسرائيلي في مصر, و لمد أنبوب غاز من حقل ظهر “Zohr” المصري باتجاه قبرص ومنها لجزيرة كريت اليونانية حتى أوروبا عبر الأراضي الإيطالية.
3. قام الاتحاد الأوروبي بدعم مصر لتتحول كمركز إقليمي للطاقة وشاركت فرنسا و ايطاليا و اليونان و الولايات المتحدة في تأسيس منتدى غاز شرق المتوسط بالقاهرة. وفي نفس الإطار وقعت مصر على اتفاق لاستيراد الغاز الطبيعي من إسرائيل لمدة 10 سنوات، وبقيمة 20 مليار دولار، وكان الهدف المعلن هو إعادة تسييله ثم تصديره لأوروبا من خلال خط مشترك بين مصر واليونان وقبرص.
4. استثمرالاتحاد الأوروبي ودولة الإمارات العربية المتحدة مبلغ 4,5 مليار دولارًا مشروع East-Med. حيث وضعه الاتحاد الأوروبي ضمن “المشروعات المشتركة” الممولة من جانب صندوق البنية التحتية الأوروبي.
5. دعم الاتحاد الأوربي اتفاقية اعادة ترسيم الحدود البحرية بين مصر و قبرص و التى اعتمدها البرلمان المصري سنة 2015, و كذلك الاتفاقية المصرية اليونانية الاسبوع الماضي و التى اعطت اليونان و اسرائيل الحق بمد خط الغاز من اسرائيل الي اليونان دون المرور بالمياه الاقتصادية التركية.
الجدوى الاقتصادية لمشروع East-Med:
الجدوى الاقتصادية لمشروع East-Medمحدودة جدا, بسبب ان احتياطيات الغاز بحقل Leviathan تقع في احواض رسوبية عميقة، مما يرفع تكلفة استخراج الغاز و كذلك فإن تكلفة مد خط انابيب بطول 1900 كلم في اعماق البحر سترفع من سعر الغاز عندما يصل إلى أوروبا لاسباب فنية، في حين ان المشروع سيوفر فقط ما يمثل 2% من احتياجات أوروبا السنوية مقابل 30% يتم توفيرها من روسيا و بتكاليف اقل بكثير.
و في حال اللجوء الي المشروع البديل وهو مد خطوط الانابيب من حقول الغاز في اسرائيل و قبرص الي محطات ادكو و دمياط
في مصر لتسييل الغاز، باعتبار أن مصر هي “السوق الوحيد” في جنوب المتوسط الذي بإمكانه استيعاب الغاز القبرصي والإسرائيلي اذا تم استثناء تركيا المنافس، بسبب امتلاك مصر مصانع إسالة, تضل الجدوى الاقتصادية ضعيفة من ناحية تصدير الغاز المسال إلى أوروبا، بسبب فارق الأسعار، إذ أن أوروبا تستورد الغاز من روسيا أو الجزائر أو ليبيا عبر خطوط الأنابيب بأسعار تتراوح من 4 إلى 5,5 دولارات للقدم المكعب، بينما سيبلغ سعر القدم المكعب من الغاز الإسرائيلي و القبرصي المستورد من 6,5 إلى 7,5 دولارًا، وإذا تم تسييله، سيصل سعره إلى 14 دولارًا للقدم المكعب، وهذا نحو 3 أضعاف أسعار الغاز في أوروبا حاليًا.
المصالح الروسية و التركية,,,
روسيا هي صاحبة أكبر احتياطي غاز في العالم, وهي المورد الرئيسي لاوروبا, حيث تزوّد روسيا حوالي 30% من حجم الاستهلاك في أوروبا، بالإضافة إلى 16% من اوكرانيا, معظم الغاز كان يمر عبر اوكرانيا لكن بعد الحرب في اوكرانيا اصبح الاعتماد على خط North Stream الذي يمتد ما بين روسيا وألمانيا, في حين تتمثل اهمية تركيا في موقعها الجغرافي. و عضويتها في حلف الناتو، حيث تُسيطر تركيا على مضيقي البوسفور والدردنيل، وهي مضائق تركية تربط بين البحر الأسود والبحر الأبيض المتوسط، وبالتالي يعني هذا سيطرة تركيا على المضيق الذي يقع على أحد طرق التصدير البحرية الثلاث للنفط الخام في روسيا.
وعلاوة على ذلك، مشاركة تركيا حدودها البرية مع العراق و ايران وجورجيا إلى الشرق و كلها دول مصدرة للطاقة، وبلغاريا واليونان من الغرب تعني أن البلاد تعمل بشكلٍ فريد على ربط مراكز الموارد في الشرق بأسواق الطاقة في أوروبا,
سعت تركيا عبر خطة “الوطن الأزرق” للتوسع في المياه البحرية المحيطة بها، ويقصد بـ “الوطن الأزرق” (Mavi Vatan) المنطقة الاقتصادية الخالصة، والجرف القاري والمياه الإقليمية المحيطة بتركيا، التي تتيح حرية استخدام جميع الموارد البحرية الموجودة فيها. وقد سعت شركة النفط التركية (TPAO) مساحة أعمال التنقيب عن النفط والغاز في البحر الأبيض المتوسط، عام 2018، لتصل إلى 9 آلاف و342 كيلو مترا مربع.
كذلك سعت روسيا إلى تكرار نجاحها في مشروع North Stream بإنشاء مشروع مماثل في الجنوب يربط روسيا مع بلغاريا، يُسمي South Stream . لكن توقف هذا المشروع كما ذكرنا سابقا نتيجة العقوبات التي فرضت على روسيا من امريكا و الاتحاد الاوروبي، و خسرت شركةغاز بروم الروسية مبلغ (9,4 مليار دولار) بسبب توقف المشروع, فتحولت روسيا الي توريد الغازعبر تركيا من خلال خط أنابيب بلو ستريم”Blue Stream” بسعة 3 مليار متر مكعب، ثم اتبعته بمشروع السيل التركي “Turck Stream” في بداية 2020 عبر تركيا هو خط يتألف من أربع خطوط بسعة 15,75 مليار متر مكعب لكلٍ منها، حيث سيغذي الخط الأول تركيا فقط, و تغذي الخطوط الثلاث الاخرى اوروبا لكن للاستفادة من خط أنابيب Turk Stream يتوجب على تركيا بناء وصلات عبر المياه التركية اليونانية المتنازع عليها لتجاوز أوكرانيا, و لكن من خلال الاتفاقية التى وقعتها تركيا مع حكومة الوفاق في ليبيا اصبح بامكان تركيا تثبيت أقدامهم في المياه المتنازع عليها الممتدة 600 كم بين قبرص و جزيرة كريت، و باشرت شركة TPAO فعليا وعبر سفينة “بارباروس خير الدين”، في اجراء أبحاث وأنشطة مكثفة، للكشف عن الغاز في المنطقة موضوع النزاع, و ليصبح مشروعEast-Med فعليا تحت رحمة تركيا, الامر الذي جعل الاتحاد الاوروبي منقسم على نفسه فايطاليا و المانيا لم تعد ترى في المشروع ذو الجدوى الاقتصادية الضعيفة لمد خط الغاز عبر المنطقة الاقتصادية التى حددتها الاتفاقية التركية-مع حكومة الوفاق، يستحق تفجّير الأوضاع عسكريا في حال دخول جميع الحلفاء و الأطراف المتصارعة بشكل مباشر، في حين ترى فرنسا ان هذا المشروع مسالة امن قومي للتحرر من قبضة القيصر الروسي, و لكن روسيا وجدت لنفسها مؤطى قدم في مشروع East-Medمن خلال مصر حيث اشترت شركة روزنفت الروسية 30% من حصة ايني الايطالية مقابل 1.575 مليار دولار, الامر الذي جعل كل من قبرص و اسرائيل و اليونان تستبعد مصر من توقيع الاتفاقية في بداية السنة بالرغم من ان مصر كانت تعول كثيرا على ضم حقل ظهر لمشروع East-Med, و روسيا لن تترك أية فرصة أمامها للاستئثار بالغاز الليبى و المصري والنيجيري، وتطويق أوروبا من الضفة الجنوبية للبحر المتوسط, في حين اصبح الموقف الايطالي اقرب للخروج من المشروع باقل الخسائر, و في قادم الايام ستشهد لبنان حلبة الصراع الاخير على غاز المتوسط. في حين ستعود ليبيا الي النسيان بعد ان يتم تقاسم المياه الاقتصادية الليبية بين الدول المتصارعة مع تنافس المسؤلين في ليبيا على التنازل عن كامل المياه الاقتصادية بكل ما تحويه من ثروات من اجل الجلوس على كرسي السلطة.