الخطوط الليبية أم “شركة الكاروات”
218TV.net خاص
سالم العوكلي
“منذ يومين خرجت بعد صلاة الفجر، من بنغازي متجها إلى مطار الأبرق، وصلت حوالى التاسعة، وكانت رحلتي إلى برج العرب الحادية عشرة والنصف. وجدت طابورا طويلا أمام مكتب الخطوط الجوية الليبية، عجزة، ومرضى، وعمال مصريون، وشباب، وكانت الصالة ممتلئة، حيث رياح القبلي تعصف في الخارج، لا أدري إذا كان هناك مكيف شغال، ولكن حتى لو كان شغالا لا تحس له أثر. حمامات الصالة مغلقة للصيانة، انتظرت حتى العاشرة، وحين خرج علينا موظف الخطوط ليقول لنا إن المكتب لن يفتح قبل الواحدة، سمعنا أخبارا مفادها أن الطائرة أقلعت صباحا إلى الكفرة، ومنها إلى طرابلس، في رحلات استثنائية، وسوف تصل حوالى الثالثة ظهرا. انتظرت حتى الرابعة والنصف، ثم هاتفت صديقا يعمل كابتن طيار في الخطوط، أخبرني بعد أن أجرى اتصالاته بأن الخطوط لديها طائرتان تعملان، إحداهما مع عقيلة صالح في المغرب، والأخرى دخلت صيانة منذ نصف ساعة في طرابلس، وسوف تبقى خمس ساعات أخرى على الأقل. قررت الرجوع إلى بنغازي، بعد أن أبلغت من تسنى لي إبلاغه من المنتظرين. في اليوم التالي حوالي الحادية عشرة، ذهبت لاسترجاع التذكرة، وقد أخبروني أن الطائرة لم تقلع حتى آنذاك، وأنه ليس من المتوقع أن تقلع قبل الثانية والنصف”.
هذه رسالة وصلتني على الماسنجر بتاريخ 11 مايو 2017 من صديق كان مدعوا إلى القاهرة لاجتماع اتحاد مجامع اللغة العربية، لكنه لم يستطع السفر بسبب الظروف التي ذكرها في رسالته، فنصف أسطول الخطوط الجوية الليبية محجوز من قبل السيد عقيلة صالح رئيس مجلس النواب ونصفه الآخر في ورشة الصيانة، أما المواطنون فمكدسون في صالة بائسة في أيام قائظة دون مكيف أو حمامات، عائلات وأطفال ومرضى ذاهبون للعلاج . وعلى رئيس مجلس النواب وهو يحجز (نصف أسطول الخطوط الجوية الليبية) في المغرب، ويقيم في فندق فاره ويتنقل في سيارات فارهة ومكيفة، أن يفكر في هؤلاء الذين يتعذبون في خيمة صفيحية بالمطار، ويبيتون ليلهم دون طعام أو حمامات ، مع أنه كرئيس لمجلس النواب يستطيع تدبر أموره بطريقة أخرى ويترك هذه الطائرة لهؤلاء الغلابة الذين هم من أوصلوه لهذا المنصب.
ذكرتني رسالة صديقي بحوار أجريناه لجريدة ميادين مع السيد، أحمد يونس نجم، وزير المواصلات السابق، فترة حكومة ونيس القذافي (سبتمبر 1968 إلى 31 أغسطس 1969) ونُشر في الصفحة الخامسة بالعدد 18 من جريدة ميادين ، بتاريخ 13 سبتمبر 2011. ولا أشبه اليوم بالأمس وأتمنى أن لا يشبه الغد.
توجهت ميادين بسؤال إلى السيد نجم: “هناك حادثة المطار مع هاشم العبار مدير الخطوط الجوية الليبية، وطلبتم تأخير الطائرة حتى تنقل الوزراء من البيضاء؟”.
يجيب السيد نجم : “أذكر. كانت مناسبة عيد ، وبعض الوزراء معي كان أهلهم بطرابلس مثل رجب الماجري .. فقالوا لنا نحن جدول أعمالنا طويل والطائرة موعدها الساعة السادسة ، وطلبنا تأخير الطائرة حتى تنقل الوزراء إلى طرابلس. فاتصلت بهاشم العبار .. فأجابني بلهجة ساخرة : ومالو!! .. سنؤجل كل الطائرات . ثم رد في حنق: هل أنت جدي في كلامك هذا؟ فقلت له: بسبب الوزراء . فقال لي: نحن لنا ركاب وطائراتنا مضبوطة بمواعيد، وإن لم تلتزموا بذلك فاكتبوا عليها شركة الكاروات وليس الطيران . وقال لي : (أن تكتب لي برقية سأنفذها ولكن علي الطلاق لن استمر في ذلك). وكنت احترم التزامه . كانت هناك أشياء كثيرة تمضي بالتزام، حتى الموظفين كانت أمورهم ماشية وكل منهم يعرف واجبه”
قبل عامين كان أحد أصدقائي قادما مع عائلته من طرابلس إلى مطار طبرق، كان هذا الصديق مبتور الرجلين من أعلى الفخذ وبصيرا ويعاني ألاما شديدة في كل جسده ، ووصل إلى طبرق مساءً ليستقل الطائرة الأخرى، الساعة العاشرة ليلاً، إلى مطار الأبرق، لكن الطائرة لم تقلع في موعدها، فسأل ابنه أحد الموظفين في شركة الخطوط الذي يعرفه من بنغازي، فقال له بصراحة الطائرة استقلها أعضاء من مجلس النواب، والرحلة القادمة ستكون غدا الساعة الواحدة ظهرا، وبات (نصف الإنسان) المريض ليلته وحتى ظهيرة اليوم التالي يئن على كرسي من الحديد.
مثل هذه المواعيد المخروقة كانت تحدث معنا مرارا فترة النظام السابق، وكل مرة تتأخر الطائرة يوما كاملا أو تلغى الرحلة لأنها اتجهت فجأة إلى دولة إفريقية، أو لأن العائلة المالكة ذاهبة إلى مناسبة في الشرق، أو لأنها تحمل كلبة زوجة هانيبال القذافي إلى بيروت كما عرفنا لاحقـا، أو .. أو .. . لكننا كنا نكتفي بالصبر والدعاء لأن لا حيلة لنا، فالقذافي وضباط معه هم من قاموا بـ (الثورة) واستولوا على السلطة بالقوة ، ومرارا قال في حوارات معه من يريد السلطة فليأخذها بالقوة، ولأن لا أحد اختاره أو انتخبه فكان يعتبر الأرض ومن عليها ملكا له. لذلك كنا ندرك هذه الحقيقة المرة التي تجعل المطالبة بحقوقنا نوعا من العبث، وتجعل الحصول على الحقوق مستحيلا طالما هذا النظام غير الشرعي قائماً.
أما الآن بعد فبراير فمن قاموا بالثورة هم الناس الذين يبيتون لياليهم في مطارات دون حمامات ودون طعام ودون حتى كراسي أحيانا، وهؤلاء هم من انتخبوا ونصبوا الذين يسرقون طائراتهم من مواعيدها ويتركونهم يتعذبون في مطاراتنا القاحلة الشبيهة بالسجون، من المفترض أن يكون الأمر مختلفا، ومن المفترض أن ترفع القضايا جماعيا في هذه الشركة التي ذكر تاريخها الأخلاقي وزير المواصلات إبان الملكية، السيد أحمد نجم، وعندما كان مديرها السيد هاشم العبار، الذي رفض بقطعية تأجيل الرحلة ولو دقيقة واحدة، رغم أن الطلب كان من رئيسه وزير المواصلات، وفي النهاية قال له من الممكن أن تأمرني ببرقية فأنفذها لكن لن أبقى في هذه الشركة، والأجمل أن الوزير كان سعيدا بالتزام مرؤوسه.
الحري بمدير الخطوط الجوية الليبية الآن أن يحترم ركابه ويحترم نفسه أو يستقيل، لأن لا قانون يجعل صاحب أي منصب يتدخل في عمله أو مواعيده، والظروف السيئة لا تبرر أن تعطي الناس مواعيد وتخل بها. أما الركاب الذين هم مصدر الشرعية الآن، عليهم أن لا يتنازلوا عن حقوقهم، فثمة عقد بين الشركة والراكب كفيل بأن يجعلهم يرفعون قضايا وأن يحتفظوا بها حتى تعود هيبة الدولة ومؤسساتها القضائية ، فلا يضيع حق وراءه مطالِب.