الخطة الخمسية الثانية
الخطة الخمسية 1969 ــ 1974 : ليبيا 2025
سالم العوكلي
“كان من الطبيعي أن تبدأ الخطة الثانية باستعراض أهم إنجازات الخطة الخمسية الأولى 1963 ــ 1968 بالإضافة إلى السنة التكميلية المنتهية في 31 مارس 1969. كما أنه كان علي أن أتأكد من أن الخطة قد استفادت من المسوحات الميدانية ومخططات المدن والقرى التي أشرفتْ على إعدادها وزارة التخطيط والتنمية مع الوزارات المختصة. لذلك كنت سعيدا جدا بما حققه فريق التخطيط المكون من حوالي 250 ليبياً من الجامعيين المؤهلين ومن عشرات الخبراء العرب والأجانب. لقد استطاع ذلك الفريق بالعمل المتواصل والجهد المضني أن يعد مشروع الخطة في أربعة مجلدات تفصيلية وفرت قاعدة ارتكازية متينة لانطلاقة تنموية سليمة متوازنة، لو تم الحفاظ عليها وتنفيذها حسبما كان مخططا لها.”
هذا ما يذكره د. علي أحمد عتيقة، في كتابه المهم جدا “بين الإرادة والأمل : ذكريات وتجارب حياتي” الذي يسجل فيه تجربته الحياتية والعملية، متطرقا فيه وبدقة إلى أهم مراحل تشكيل الدولة الليبية المستقلة حديثا ومساهمته الخاصة مع كفاءات وطنية أخرى استطاعت أن تضع الدولة الليبية الناشئة على الطريق الصحيح فيما يخص الأفق التنموي والإداري والاقتصادي. وسأركز هنا على حديثه عن الخطة الخمسية الثانية 1969 ــ 1974 والتي سبق إعدادها انقلاب سبتمبر بشهور قليلة ليذهب هذا الجهد المميز في التخطيط إلى سلة المهملات، ومعه يذهب مستقبل دولة القانون والتنمية المرسوم بعناية إلى النسيان في ظل حماس ثوري مجنون وجه كل مقدرات الدولة إلى تكديس السلاح فيما وإهدار الأموال في دعم الجماعات المتمردة في أصقاع الدنيا.
يعود د. عتيقة إلى وزارة التخطيط والتنمية ــ التي عمل بها لفترة وكيلاــ يعود وزيرا بعد إلحاح رئيس الوزراء آنذاك عبدالحميد البكوش على تقلده هذه الوزارة التي رفضها أكثر من مرة، ليباشر عمله بدعوة لجنة التخطيط المشتركة لاجتماعات متواصلة طيلة شهر رمضان الموافق لشهر ديسمبر عام 1968 .وبعد أن يذكر بعض الظروف المحلية والدولية المحيطة بفترة إعداد هذه الخطة، يعود للحديث عن ملامح هذه الخطة التي أعدها وأشرف عليها لمدة عام كامل ثم تولي الدفاع عنها أمام السلطات التنفيذية والتشريعية : “يتكون الجزء الأول من مجلد واحد بعنوان الهيكل الاقتصادي العام الذي تضمن أهم التطورات الاقتصادية والاجتماعية منذ استقلال البلاد وحتى نهاية الخطة الخمسية الأولى ، كما تضمن نتائج المسح الميداني للقوة العاملة بهدف تقدير حاجة البلاد منها خلال فترة الخطة. وتضمن أيضا بداية أولية لتخطيط المناطق الاقتصادية حسب مقوماتها الطبيعية والبشرية تمهيدا للانتقال بعملية التخطيط من أسلوب تقسيم الخطة بين قطاعات الإنتاج والخدمات إلى إعدادها على أساس مناطق جغرافية متكاملة ، لكل منها معطيات ومقومات تجعلها مركزا تنمويا متميزا …”.
تطرح هذه الرؤية الذكية للبعد الجغرافي مفهوم التنمية المكانية والتكامل الاقتصادي بين مناطق ليبيا حسب خصوصية كل منها، وهذه ليست لها نتائج اقتصادية مهمة فقط لكن لها نتائج سياسية واجتماعية من شأنها أن تعزز الوحدة الوطنية وفق المصالح المتبادلة والتكامل بين المناطق، وليس وفق شجون عاطفية من الممكن أن تنقلب في أية لحظة إلى العكس حين تكون المصالح مرتبطة بمصدر وحيد للتنمية، وباقتصاد ريعي من شأنه أن يبث رهاب المركزية ومشاعر التهميش التي تهدد وحدة البلاد والسلم الاجتماعي، مثلما يحدث الآن بعد أن زالت منظومة الإكراه.
“إن البترول أصل يستهلك بالتدريج وله عمر محدود يجب قبل تلاشيه تنويع أنشطة الاقتصاد وقيادته إلى الهدف المنشود على مراحل تشكل كل منها خطة خمسية.”
وفق هذا المنطلق وعى المخططون الأوائل مخاطر المركزية والتداعيات الخطيرة للاعتماد على مصدر ريعي وحيد وقابل للنفاد، فجعلوا أهم مرتكزات الخطة الخمسية الثانية تفكيك المركزية والتركيز على التنمية المكانية وتعديد مصادر الدخل، وهو منحى يميز كل تخطيط حديث يسعى لثقافة النهوض والتنمية المستدامة، ولم يلتفت له التخطيط الليبي فيما بعد إلا بعد أربعة عقود عبر مشروع ليبيا 2025 الذي قام به مركز البحوث والاستشارات بجامعة بنغازي بتكليف وإشراف من مجلس التخطيط الوطني الذي كان يرأسه د. محمود جبريل. وباعتباري كنت ضمن هذا المشروع فيما يتعلق بقطاع العلوم والثقافة أدهشني أن أجد في كتاب مذكرات د. عتيقة منطلقات الرؤية نفسها تقريبا للنهوض بليبيا، وهي رؤية كان من المفترض أن تنفذ قبل 38 عاما من مشروع ليبيا 2025 الذي صيغ في 2008 ، والذي أُجهِض بدوره بسبب تعنت النظام السابق ورفضه للعمل وفق خطط سنوية أو رؤية استراتيجية، مفضلا الارتجال كركيزة للنظام الفردي المصاب عادة برهاب المستقبل والتخطيط طويل المدى.
يصف د. عتيقة في كتابه، وفي الجزء المتعلق بالخطة الخمسية الثانية، الخطوات المقترحة إجرائياً للقضاء على المركزية : “اقترحت الخطة الثانية تقسيم البلاد إلى 14 منطقة اقتصادية متكاملة موزعة بين المحافظات العشر . وحددت الخطة أهم المقومات التي تؤهل كل منطقة للتخصص في نشاط اقتصادي أو أكثر. كانت الخطة الثانية تهدف إلى تمهيد السبيل لجعل تلك المناطق قادرة على النهوض بالتنمية الاقتصادية والاجتماعية بعد أن توفر لها الخطة الخمسية الثالثة كل المتطلبات المالية، والاستقلال الإداري المستقل عن أجهزة الأمن والأعمال الروتينية. كان من المتفق عليه أن يعمل جهاز التخطيط المحلي تحت إشراف مجالس متخصصة تخضع للمحافظ وهو بدرجة وزير ويتبع لرئيس الوزراء ولديه صلاحيات واسعة. وقد تبين من ذلك المسح الميداني للتخطيط والتنمية الإقليمية أن بعض المناطق تعد مؤهلة للتنمية السياحية ، وأخرى للزراعة المروية، وثالثة للزراعة البعلية ، ورابعة للصناعات البترولية، وأخرى للصناعات الخفيفة. هكذا يصبح بإمكان الخطة الخمسية الثالثة أن تضع الأسس اللازمة للتنمية الشاملة المعتمدة على التنويع والتكامل بين مناطق البلاد حسب قدراتها الذاتية سواء الاقتصادية منها والاجتماعية.”.
تطرق مشروع ليبيا 2025 لهذه الأفكار المتعلقة بالتنمية المكانية (التي يسميها الكتاب “التنمية الإقليمية”) وعن تنوع مصادر الدخل المذكورة أعلاه مضافا إليها، الصناعات البحرية، اقتصاد المعرفة ، تجارة العبور. واعتقد الآن لو أن هذا الكتاب طبع مبكرا قبل مشروع ليبيا 2025 لوفر علينا الكثير من الجهد ولزودنا بالكثير من الإلهام بما يزخر به من أفكار علمية مهمة لصناعة التقدم على كل الأوجه، لقد كان مع د. علي عتيقة الكثير من الكفاءات الوطنية لكنه يختلف كونه سجل كل هذه التجربة والخبرة في كتاب ضخم اعتبره وصيته للأجيال القادمة من أجل نهضة ليبيا حين تتوفر “الإرادة والأمل”.