كتَـــــاب الموقع

الخطاب والسلطة عند فوكو

جَني بنكس(1)

ترجمة: عمر أبوالقاسم الككلي

 

يشير الخطاب، وفقا لتعريف فوكو Foucault، إلى:

طرق تأسيس constituting المعرفة، إضافة إلى الممارسات الاجتماعية، أشكال الذاتية وعلاقات السلطة [القوة](2)  power الكامنة في مثل هذه المعرفات(3) والعلاقات بينها. الخطابات هي أكثر من كونها طرقا للتفكير وإنتاج المعنى. إنها تؤسس”طبيعة” الجسد، العقل اللاواعي والواعي، والحياة العاطفية الخاصة بالذوات التي تسعى، هذه الخطابات، إلى حكمها(Weedon, 1987, P. 108).

…إنها شكل من أشكال السلطة الدائرة في المجال الاجتماعي ويمكن ربطها باستراتجيات السيادة  domination وكذلك استراتجيات المقاومة (Diamond &Quinby 1988,P. 185).

عمل فوكو متشبع بالانتباه إلى التاريخ، ليس بالمعنى التقليدي للكلمة، ولكن باتباع ما سبق له أن أطلق عليه مصطلح “علم آثار archeology” أو “علم نسب genealogy” إنتاج المعرفة. معنى هذا أنه ينظر إلى  التواصل والانقطاع بين”الأصول المعرفية (4) epistemes”(يعني بها فوكو أنساق المعرفة التي صاغت في الأساس التفكير خلال حقب تاريخية محددة: فكل عصر تميز بنسق أصول معرفية  epistemologic معينة كانت السيادة فيه لأصل معرفي محدد) والسياق الاجتماعي الذي انبثقت ضمنه معرفات وممارسات محددة على أنها مسموح بها ومرغوبة، أو تغيرت. فالمعرفة، من وجهة نظره، متصلة على نحو لا انفصام له بالسلطة، لذلك عادة ما تكتبان هكذا: سلطة/ معرفة.

تحليل فوكو المفهومي للانعطاف الأكبر في الممارسات الثقافية (الغربية) من “السلطة الحاكمة sovereign power” إلى “السلطة الضابطة disciplinary power” في كتابه “الضبط والعقاب: ميلاد السجن(1979)Discipline and Punish: The birth of the Prison ” يعد مثالا جيدا على منهجه في”علم نسب[المعرفة]”. إذ يضع خطاطة للتحول من شكل التحكم الاجتماعي social control المتجه من أعلى إلى أسفل إلى شكل الإكراه الجسديphysical coercion المدار من قبل الحاكم  the sovereignكشكل من المراقبة الاجتماعية social surveillance وعملية “ترويض normalization” أكثر تهدئة ومكرا. هذا الشكل الأخير، يقول فوكو، محتوى في ما أسماه بنتام ” Benthamالنطر الشامل Panopticon” وهو نظام سجني وجد في القرن التاسع عشر تحيط فيه الزنازين  برج مراقبة يتسنى للمراقب منه مشاهدة النزلاء دون أن يكون هؤلاء متأكدين من أنهم مراقبون، لذا يأخذون بمرور الوقت في الاحتراس police لسلوكهم. وهكذا أصبح النظر الشامل مجازا دالا على العمليات التي”تحرس  police” فيها تكنولوجيات الضبط مع انبثاق علم الاجتماع المعياري normative social science، عقل وجسد الفرد الحديث، مجتمعين (انظر: Dreyfus and rabinow, 1982,p. 143-67

السلطة عند فوكو، حسب تفسير ويدون Weedon (1987) هي:

حركية التحكم dynamic of control ونقص التحكم بين الخطابات والذوات المؤسَّسة من قبل الخطابات التي تكون هذه الذوات أدوات agents لها. تكون السلطة ممارسة من داخل الخطابات بالطرق التي تؤسس بها الذواتِ الفرديةَ وتحكمها (p. 113).

ينصب تركيز فوكو على أسئلة من مثل كيف أن بعض الخطابات قد شكلت وخلقت أنساقا للمعنى حازت وضع وسِمةَ “الحقيقة”، وتسود الكيفيةَ التي عبرها نعرِّف وننظم أنفسنا وعالمنا الاجتماعي، في حين أن خطابات أخرى بديلة قد همشت وأخضعت، ومع ذلك تظل حائزة على إمكانية “تقديم” مواقع يمكن لممارسات الهيمنة hegemonic practices فيها أن تنازع وتهدد و”تقاوم”. ولقد نظر بشكل خاص إلى البناء الاجتماعي للجنون والعقاب والجنسانيةsexuality. فمن وجهة نظر فوكو، ليس ثمة هوية أو ممارسات سواء اجتماعية أو (شخصية) ثابتة وبانية بشكل حاسم، مثلما توجد في وجهة النظر المقررة اجتماعيا التي تكون فيها الذات قد جُتمِعت(5) socialised تماما. في الواقع، فإن تشكيل الهويات وكذلك الممارسات يتعلق بخطابات متعينة تاريخيا، أو هو وظيفة لها. ولذا، ففهم الكيفية التي تم بها تشكل هذه الأبنية الخطابية قد يفتح الطريق للتغيير والمنازعة.

طور فوكو”المجال الخطابي discursive field ” باعتباره جزءا من محاولته فهم العلاقة بين اللغة والمؤسسات الاجتماعية والذاتية والسلطة. فالمجالات الخطابية، من مثل القانون والأسرة، تحتوي عددا من الخطابات المتناقضة والمتنافسة، الحائزة على درجات مختلفة من السلطة، بغية إعطاء معنى للمؤسسات والممارسات الاجتماعية وتنظيمها. وهي”تقدم” أيضا سلسلة من أنماط  modes الذاتية (Weedon, 1987, p. 35). وهذا يستتبع أنه:

إذا ما توزعت علاقات السلطة وتشظت عبر المجال الاجتماعي، فلابد أن تنشأ المقاومة ضد السلطة. (Diamond & Quinby, 1988, p. 185).

في كتابه “نظام الخطاب The Order of Discourse” يجادل فوكو بأن “إرادة امتلاك الحقيقة will to truth” هي نسق الإقصاء  system of exclusionالأكبر الذي يزيف الخطاب و “يتجه إلى ممارسة نوع من الضغط وشيء يشبه سلطة الإكراه على الخطابات الأخرى”، ويمضي فوكو أبعد من ذلك ليسأل “ما الذي يراهَن عليه في إرادة امتلاك الحقيقة، في إرادة التلفظ بهذا الخطاب ‘الحقيقي‘، إن لم تكن الرغبة والسلطة؟” ( 1970, cited in Shapiro 1984, p. 113-4).

وهكذا، فثمة خطابات تكبح إنتاج المعرفة، والمعارضة والاختلاف، وخطابات أخرى تمكن من إنتاج معرفات “جديدة” واختلافات. وتتعلق الأسئلة التي تنهض ضمن هذا الإطار بالكيفية التي تحافظ بها بعض الخطابات على نفوذها، والكيفية التي بها يتم الاستماع إلى بعض”الأصوات” في حين يتم إسكات الأخرى، من المستفيد وكيف. تتصل هذه الأسئلة بقضايا السلطةpower / التخويل empowerment/ الإبطال disempowerment.

الهوامش.

1- Jenny Pinkus

2-تعني power السلطة بالمعنى السياسي، أي السلطة المديرة للدولة، كما تعني القوة، وفي هذا السياق القوة المتوزعة على أقسام المجتمع، أي النفوذ الذي تحظى به وتمارسه بعض القطاعات الاجتماعية، وهو يمثل، بطبيعة الحال، سلطة”معنوية” داخل المجتمع. لذا سنترجمها في هذا المقال بالسلطة فقط أيا كان السياق.

3- آثرنا استخدام صيغة الجمع هذه، بدل “معارف” لأن الكلام يتم عن أنساق معرفية مختلفة، وليس عن مجرد معارف متنوعة.

4-   يترجم د. عبدالسلام المسدي لفظة  epistemologyبـ “الأصولية”. انظر: د. عبدالسلام المسدي. الأسلوبية والأسلوب. طبعة جديدة و منقحة و مشفوعة بببليوغرافيا الدراسات الأسلوبية والبنيوية. الدار العربية للكتاب( د. ت.). ص133. وتأثرا به نترجمها نحن”علم أصول المعرفة”. لذا نترجم episteme بـ”أصل معرفي”.

5- أخذنا هذا الاشتقاق عن قاموس المورد المعروف.

 

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى