(الحياة مرصودة في غنّاوة علم)
إلى روح عبدالكافي البرعصي
المهدي التمامي
أثناء ثورة الرومانتيكيين على عقلانية القرن الثامن عشر، تمسك العقلانيون بوجهة نظر “كانط” القائلة بأن المعرفة هي معرفة الظاهري فحسب، وأن العقل لا يستطيع أن يصل إلى معرفة الأشياء بذاتها، لكن الرومانتكيين ذهبوا إلى ترديد عبارة “بسكال” التي تقول: إن للقلب مبرراته التي لا يعلم عنها العقل شيئًا.
قبل مائة عام من الآن؛ انفرط عقد السلام فجأة، واضطربت أجنحة الرحيل.. عاشقان يمزق زهرة انوجادهما الأزيز الرجيم.. وتتبعثر حبات المحبات على مرأى من دموع أبية.. لكنها “مكاتيب من مولاي”.. تقول جدتي الخحولة، بخفر عذري: “نا جليت، والغالي وطنّ”..
منذ تلك الدهشة المباغتة التي أسرتني بها جدتي صغيرًا، في كلمات قليلة اختصرتْ عمرًا كاملاً من قسوة الإيمان وعذاب الرجاء؛ وأنا مأخوذ بهذه السطوة الشهية التي نزلت بأزهار البلاغة من تعاليها، عبر ترميزها في شفاهية معجزة.
لقد ظُلم هذا الفن الباذخ، المتمثل في (الشجن الفطري) كما يسميه الأديب (سالم العوكلي).. و أسميه (شذرة الساحل).. وإن كان هذا الفن ينتشر في الرقعة الممتدة من مناطق الوسط الليبي، كمدينة سرت وبواديها… غربًا، وحتى تخوم مدينة الإسكندرية في القطر المصري شرقًا.. إلا أن ذروة الاهتمام بهذا الفن وتجليه نجدها في قرى وبلدات (الساحل).. وهو الشريط المحاذي للبحر شرق مدينة بنغازي.. حيث تُمثّل (غناوة العلم) أهمّ مكوّنات الوجدان هناك..
أما (عبدالكافي)؛ فقد استطاع، وهو معزول في (مراوة) بلدته الصغيرة الغافية علي ذرى الجبل الأخضر.. أن يتوهج بتلقائية فنية نادرة، ليصل لكل مستمع يمتلك أبجدية التذوق العالي لهذه الكثافة الساحرة..
لقد مثّلت (غناوة العلم) حدثًا مركزيًا في حياة عبدالكافي، لأنه تمكن من العثور على الكلمات المضيئة التي تمتلك قدرة التجلي والتعبير عن الحالات الشعورية المتعددة.
وعلي الرغم من رحيل هذا (المغني الجوال) كما وصفه الأديب (سالم العوكلي) وهو يُهدي لروحه أحد كتبه الإبداعية، إلا أن (غناويه) ما تزال تمتلك طاقة نفسية عالية تسري في جسد اللغة المضمخة بأحاسيس العشاق المجانين، والفقراء العذِاب، والأثرياء والنبلاء العالقين باللغة، والرعاة المثملين بنداوة الشوق والخحل… وأتوقّع أن هذه (الغناوي) سوف تمتد إلى أجيال عديدة، ما دامت دلالاتها (العُـرفية) مبثوثة في الكلام الراهن عبر توالدلها اليومي، ومستقرة في نطاق المجموعة التي تنتحها، ممثِلةً (دائرتها الثقافية).. وبالتالي هي التي تملك شفرتها أيضًا، الشفرة المرتبطة ببقاء القيم عند تلك المجموعة، لأن زوالها قد يؤدي إلى زوال تلك الدلالات، واستبدالها.. فيما يعرف بمبدأ تداول الدلالة.
ربما كان هناك آخرون يقتربون منه بحناجرهم الصادحة بالنشيد المدهش.. وهنا وجب أن نسوق إنصافًا لكل هؤلاء المزامير بأصدائهم الفاتنة.. بأنهم، جميعًا، يُمثّلون كوكبة من النجوم المتلألئة، إذ إن كل واحدة منها قد تكون البداية والنهاية… ومع هذا تظلّ كل (غناوي العلم) تنظر جهة عبد الكافي، وهي تواصل صعودها نحو برج غنائه الذي لا يغرب…