الحجر مثل البشر
ريما مكتبي
عندما تقيم في مدينة آمنة ومزدهرة مثل دبي تشعر بالخجل ويصيبك نوع من عقدة الذنب. تخيلوا معي المشهد: شقة مُبردة صيفاً دافئة شتاء فيها ما يكفي من الأثاث لتنام وتجلس براحة، وفي جيبك ما يكفي من المال لثلاث وجبات غذائية، ومياه شرب نظيفة. تخرج للمدينة فإذا بها تنمو وتكبر كل يوم, يزداد سكانها، لا تسمع قصفاً مدفعياً ولا يوقفك مجهول على قارعة الطريق يقيم حاجزاً عسكرياً يهدد أمنك بدل أن يحميك. على العكس, تكاد تبيت في منزلك والأبواب مفتوحة على مصراعيها بلا خوف.
هنا في دبي صنع الناس من الصحراء بلداً… وهناك صنعوا من البلد صحراء. هي نمرود في العراق، تلك المدينة الأثرية التي يعود تاريخها إلى عصر الإمبراطورية الآشورية ومعبدها الأثري عمره قرابة 2900 عام. مدينة تحكي قصصاً كثيرة عن تاريخ بلاد ما بين النهرين سُويت بالأرض قبل عامين. الكارثة تتكشف يوماً بعد يوم إثر طرد الجيش العراقي تنظيم داعش وسيطرته على المدينة زحفاً باتجاه الموصل. المقارنة هنا بين دبي ونمرود هي فقط في سياق المقارنة بين مقولة ما هو أهم البشر أم الحجر؟ لم أحسم يوماً الجواب عن هكذا سؤال. فأنا ابنة بيروت التي أول ما رأتها عيناي كانت مُهدّمة ومُدمّرة وشبه مهجورة، تماماً كما هي حلب الآن، وحمص، والموصل، ونمرود ومدن عربية أخرى في ليبيا واليمن. طبعاً الإنسان هو من يبني وهو من يهدم، وإذا ما نظرنا إلى الأرامل والأيتام والضحايا الذين تفرزهم الحروب نكاد نفقد صوابنا من شدة الحزن. لكن محو التاريخ هو كما إجرام قتل البشر. مشهد أسواق حلب القديمة المهدمة يشبه أكواماً من الجثث البشرية. ومشهد نمرود التي دُمر ما دُمر منها والباقي يُعتقد أنه مفخخ بالألغام يدمي القلوب. صحيح أن بإمكان الإنسان إعادة الإعمار, وقد عرف التاريخ مدناً كثيرة نهضت من الرماد وبدت أجمل من قبل. لكن عملية إلغاء الماضي والتاريخ مجزرة بحد ذاته. الغالبية العظمى من الشباب العربي لن يعرف عواصمه ومدنه كما كانت، وسيقرأ عنها في الكتب ويرى صورها على الإنترنت. يدفع البشر أموالاً طائلة على جمعيات الآثار للتنقيب في التاريخ، فيحللون الحجر والنقش عليه، وكيفية بنائه، ومن سكنه من شعوب وحضارات. وفي الوقت نفسه، تتبخر آلاف السنوات بطلقات مدفعية محدودة أو حتى صاروخ واحد. وإذا ما فشل العالم بحماية المدنيين في مناطق النزاع في العالم العربي فهو فشل أيضاً في حماية الماضي والحاضر والمستقبل. عندما تحضر الإرادة الدولية في وقف الحروب تتوقف، وبيروت شاهدة على وقف حرب دامت خمسة عشر عاماً بإرادة داخلية وإقليمية وعالمية. لو أرادوا الآن لفعلوها في سوريا والعراق واليمن وليبيا لحقن دماء الأبرياء ولحماية تاريخنا.
دبي جديدة واعدة بمستقبل باهر بناها بشر ونمرود قديمة وجميلة تمكنت حتى القرن الحادي والعشرين أن تصمد بوجه حروب كبيرة عبر العصور إلى أن طالها حفنة من أشباه بشر قلوبهم من حجر يقومون بمحو التاريخ إلى الأبد. مُخجل أن نقرأ على قبر نمرود: المدينة عاشت بين القرن الثالث عشر قبل الميلاد – وقتلت عام 2014.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
موقع العربية نت