الجلاصي ولعذاري والمكي: الثورة الباردة للجيل الثاني
أمين بن مسعود
في العادة، تمر أخبار الاستقالات الحزبية مرور الكرام دون أثر أو متابعة تذكر من قبل الرأي العام، ذلك أن إنهاء وجود حزبي تعاقدي هو من صميم الإرادة الذاتية المستقلة للأفراد ومن جوهر الأحزاب السياسية العادية، التي تدخلها الذوات المستقلة حرة وتخرج منها حرة أيضا، لتبقى مساءلة التجربة واستقراء الحصيلة من وظيفة التاريخ والذاكرة.
إلا أن المسألة تتجاوز منحى رتابة الخبر إلى سطوة الحدث، عندما يتعلق الأمر بشخصية سياسية مثل عبدالحميد الجلاصي، الذي أمضى في الحركة الإسلامية التونسية نحو أربعة عقود كاملة، وبات جزءا من سيرتها وسرديتها، واختار الخروج من خلال نص استقالة مُعلن يجسد خلاصة تجربة سياسية طويلة. والأكثر من كل ذلك أنه جاء متطابقا من حيث المنطق والمنطوق مع الخطاب السياسي الناقد للحركة ولتوجهاتها ورؤاها، والذي كان محل مُكابرة من قبل الخطاب الرسمي للنهضة.
ولأن آفة الأخبار في محلليها والمعلقين عليها في المشهد الإعلامي التونسي، فإن قراءة الاستقالة تمت وفق مُقاربتين دوغمائيتين. الأولى تحليلية غائية تدفع نحو تحويل الاستقالة إلى حالة انشقاق هيكلي في الحركة الإسلامية، والثانية تحليلية تطويقية تسعى إلى تطويق أثر الاستقالة واستنفاد كافة مخزونها الفكري، وتفريغها من أيّ دلالات عميقة كامنة فيها.
والأصل في التحليل أنه لا ينزع نحو الغائية الحزبية وتصفية الحسابات، ولا يصطف في معارك الحفاظ على الحركات السياسية، بل يستوفي المشهد حقه من التقييم والاستنتاج ويستوعب الاستشراف حقه من تجميع المؤشرات.
في العُمق، تُثبت رسالة استقالة الجلاصي، الأزمة المستعصية التي يعيشها الجيل الثاني في الأحزاب السياسية التونسية ومن بينها حركة النهضة، وهي أزمة منبثقة من الدور السياسي المنوط بهم باعتبارهم حلقة الوصل بين المؤسسين والشباب، والجيل المنوط به استيعاب البُعد الاحتكاري الرمزي للحركة من قبل المؤسسين، ودعوات التغيير والتجديد والتطوير المنوطة بالجيل الثالث والرابع للحركة.
وهي أزمة يتقاطع في تشخيصها عبدالحميد الجلاصي مع زياد لعذاري وعبداللطيف المكي، مع لفيف آخر من أبناء الجيل الثاني للحركة، حيث تتمثل في استعصاء تحوّل الحركة الإسلامية التونسية من جماعة إلى حزب، في ظل سلطة المؤسس، ورسوخ السلطة الحزبية والإدارية في يد واحدة، في مُقابل وجود أجيال سياسية جديدة لا تهمها كثيرا شرعية النضال والعمل السري وسنوات الجمر وسرديات المظلومية. وترى أن الزمن قرين التغيير والتثوير.
المستمع الجيد لخطاب الجلاصي ولعذاري والمكي، يدرك أن الأزمة عميقة ونكاد نقول مستعصية، حيث أنها متصلة بحوكمة النهضة ودمقرطة الحركة والتسليم بتدافع الأجيال وبتغير الشرعيات وفق تطور الزمن السياسي.
ويُدرك أيضا من حيثيات الخطاب، أن الحزب لا يزال يُدار بعقلية الجماعة ومسلكية التقية، الأمر الذي خلق زبونية واسعة في النهضة تتعامل مع السلطة بمنطق الغنيمة ومع الحزب بمنطق الولاء لمن غلب.
ولئن كان خطاب لعذاري والجلاصي والمكي، مفككا نسبيا لمنظومة الاستبداد الهيكلي في الحركة، فإن خطاب الجيل الثالث والرابع على غرار هشام لعريض يُشير إلى وجود بون جد شاسع ما بين تمثل الحركة في أذهان هؤلاء، والحركة المترهلة الماثلة اليوم في البرلمان والحكومة.
في غضون ذلك، من الواضح أن تونس أمام مؤتمرين كبيرين وهامّين جدا، واحد للاتحاد العام التونسي للشغل ويبدو أن مطلبية دمقرطة القيادة من قبل الجيل الثاني موجودة بدورها وبقوة، والثاني لحركة النهضة حيث ستُطرح بقوة سيناريوهات استبدال راشد الغنوشي والحسم في مصير ومسار الحركة.
وبين المؤتمرين، يبدو أن تونس ستحبس أنفاسها، فالقضية ليست فقط قضية إدارة خلاف داخلي، بل قادرة على الانعكاس على وضعية البلاد والعباد خلال المرحلة الحساسة.
ولئن دفعت تونس غاليا جدا، فاتورة فشل مسار دمقرطة نداء تونس، وانخراطه في سيناريوهات التوريث العاجل، فإن المرحلة قد تكون مكشوفة على فرضيات لا تقل خطورة من سيناريوهات إسقاط الحكومات والتلاعب بالعملية السياسية مع إمكانية أن يكون الحزام الرمزي الاجتماعي ممثلا في اتحاد الشغل في غير الوضع الذي كان عليه خلال السنوات الماضية.
وعندما تُقاد الدولة من قبل قبائل حزبية وسياسية، لم تخض بعد مخاض الدمقرطة والحوكمة، ولم يعتمل فيها بُعد المأسسة والتعاقب، فلن يكون سهلا أن تُدير دولة ترنو إلى الانتقال الديمقراطي وتسعى إلى إرساء الحوكمة ومحاربة الفساد.
وعندما تقود هذه الأحزاب القبلية الدولة، تنصهر الدولة في الحزب، لا بالمعنى الكلاسيكي للدولة الشمولية، بل بالمعنى المعيش حيث تصير الزبونية السياسية قاطرة للتمكين في الدولة ويصبح نيل المناصب الوزارية قاطرة عكسية للتمكين في الحزب.
قد يكون من الصعب للغاية، استشراف أن تفضي حالة الغضب القائمة في صفوف وجوه الجيل الثاني، إلى ذات ما أفضت إليه عاصفة “أردوغان غول” ضد المؤسس نجم الدين أربكان في تركيا، ليس فقط للفرق الكاريزمي بين هؤلاء وهؤلاء، بل لأن التجربة الإسلامية التركية مختلفة عن التجربة التونسية.
من الصعب استقراء السيناريوهات القادمة لحركة النهضة، فعوامل التأثير والتغيير كثيرة من الداخل والخارج، ومقدمات التكلس والتحجر موجودة ومتجذرة أيضا، ولكن الثابت أن استقالة الجلاصي عميقة الدلالات والمعاني، وسيكون لها ما بعدها بالتأكيد.