الجرّة المقدسة.. أو الجسد الدرامي
مروان العياصرة
الدراما..
مدينة كاملة الجغرافيا والأنحاء، تحتشد فيها الأضواء الساطعة بجنون، والوجوه التي تؤلفها الأفكار والحكايا والغرباء.. وبحسب كين كيز – أن تشاهد الدراما خاصتك بوضوح هو أن تتحرر منها..
هل فعلا نحن قادرون على هذا الفعل الشخصي التحرري تجاه هذه الكتل الفضائية العملاقة من البث الدرامي والتلفزيوني..؟ هل بوسعنا أن ندخل في مجال ( المغايرة ) بين غرضين دراميين يستوليان على معنى الجسد وحركاته وإيقاعاته وانفعالاته بين ( التمهين ) و ( التوهين ).
الجسد كحالة ثقافية تم استدعاؤه في الدراما كأيقونة تدور حولها المعاني والأفكار، كمسار معكوس، في حين أن الفكرة الثقيلة والثابتة مثل صخرة، أن يكون المعنى والفكرة هي الأيقونة البؤرية التي تشع وتحيل إلى تفاصيل العمل والأداءات المختلفة للفاعليات الدرامية.
لكن، كل شيء يبدو بلا جدوى.. أو بلا يقين..
أي، لم يعد ثمة ما يشبه اليقين الدرامي في فلسفة الأداء الدرامي، فقد تحول كل شيء إلى غرض ( التوهين ).. الحب مثلا صار يستدرك فاعليته وقابليته للحياة من خلال الجسد، فحين قال نزار قباني أن الحب لا تحدده جغرافيا الجسد كان يعني هذا التوهين المستفز لوجدان المتلقي العمومي الذي ما زال يحتفظ بقدسية الجسد ويختزنه في وعيه وإدراكاته، حتى جاء هذا التكريس الدرامي للجسد باعتباره النموذج الفذ للفاعليات المؤثرة في تشكيل الوعي وتوجيهه..
الوعي في الهامش الدرامي ليس سوى تمثلات الجسد، في حين هو ( غاية في حد ذاته، فنحن نعذب أنفسنا بالذهاب إلى مكان ما، وعندما نصل نجد أنه لا مكان، لأنه لا توجد وجهة حتى نتوجه إليها ) هكذا يقول الروائي والمسرحي ديفيد لورانس، إنه يقودنا للمكان الأقرب في مقاربة الفعل الدرامي بالوعي العمومي، حيث لا مكان سوى الجسد الهش.
إن كل هذا التكاثف في أجواء الفضائيات الدرامية ليس سوى دراما الجسد، أما جسد الدراما فليس سوى ألبسة من ماركات تجارية ( وماكياجات وماسكات ) وغرف نوم .. وصالات رقص، وهامش آخر ( للدم ).. وكل هذا وذاك.. بلا يقين أو روح درامية كافية وذات جدوى.
التثوير الدرامي – العربي خصوصاً – يستدرك دائما النص كهامش على متن الجسد، والسؤال الأخطر، كيف سيواجه الدراميون تحول الدراما إلى مساحة إعلانية تكون المرأة مادتها، فهي جسدا تمثل 85% من الصورة الإعلانية، يعني هذا الرقم الإحصائي العربي أن المرأة كجسد هي المادة الإعلانية الأكثر خصوبة..
نعلم يقينا – يقينا تاريخيا – أن جسد المرأة كان أول ما تفتقت عنه إبداعات الإنسان، فأخذ برسمها وتصويرها والترميز لها، من خلال الفن التشكيلي الأول في تاريخ البشرية، ويكاد يجمع الباحثون على أن لوحة عشتار هي أول عمل فني تشكيلي، فيما بعدها جاءت أعمال فنية تشكيلية ونحتية تعاملت مع جسد المرأة باعتباره فيض من الدهشة والجمال والخصوبة والأمومة، فصورت الأثداء والبطن بما يرمزان له من خصوبة وطاقة فلسفية روحية كامنة في هذا الجسد، بمعزل تام عن الرغبة والشهوانية، وللمتأمل أن ينظر في أن أول آنية أو جرة فخارية صنعت في الحضارات كانت على هيئة جسد امرأة وسميت بالجرة المقدسة ..
كان الجسد الأنثوي حالة مقدسة، واليوم يأتي هذا الكم الهائل من الاهتمام الذكوري بالجسد الأنثوي كجزء من حالة سادية درامية لم تبتكر طريقها بعد لما يمثله هذا الجسد من طاقة روحية فلسفية كامنة.
المرأة في الدراما فعل إقصاء للروحية الأنثوية، هكذا جعلها سدنة اللايقين الدرامي الحديث في عصر الصورة الرقمية، والإحساس الديجيتالي، ولغة الجسد الإعلاني.