الثورة والدستور: من العشيرة الطوطمية إلى لجنة الستين
أبو القاسم قزيط
هل يُمكن قراءة الثورات قراءة إنسانية تستلهم التاريخ الإنساني، لا شك أن مقاربة الظواهر الاجتماعية السياسية وتمديدها على أريكة التحليل النفسي هو أمرٌ معتاد إذا ماتم مداورة مفاهيم التحليل النفسي بشكل مقبول.
من ليبيا يأتي الجديد؟! قالها “هيرودوت”، وفي رواية أخرى قالها “أرسطو طاليس”، والطامة الحقيقية أن البعض يفهم هذه المقولة بمعنى السبق والريادة، وهذا الفهم يعمي ولا ينير، بل هو تفسير يُشكل عقبة معرفية لفهم الذات فهمًا صحيحًا، بل ينأى بها عن الرشد بفعل “عظامية نفاجية” تجعل من تصوراتنا حول الذات متورمة بفعل النرجسية المرضية.
هذه المقولة ليست أكثر من أحبولة وحبائس تُعيق الذات عن فهم الواقع، فالمؤرخ الأول أو المعلم الأول كانا يتكلمان عن نوع غريب من السحالي والزواحف تعيش في البلاد الليبية ببساطة مرة لا عن سبق معرفي أو حضاري!
تأسيسًا على ذلك فنحن لسنا خارج مسار التاريخ، بل في قلبه وتحكمنا شروطه وقوانينه، والحتمية الأنثربيولوجية والتاريخية، يُمكن أن تفسر صيرورات الحاضر، وإن كان بطبيعة الحال التفسير الشامل بعيد المنال.
تقول الأسطورة إن الثورة الأولى في تاريخ البشر هي ثورة الأبناء على الأب، وهي ثورة ضد المنع الجائر، واحتكار الممتلكات والنساء، فهي ثورة باحثة عن اللذة، وهي إلى حدٍّ ما، ثورة لأجل التملك، وهي في التحليل الأخير ثورة غنائنمية، وكل ثورة بالضرورة تنشد الغنيمة، فقط البعض غنيمتها في عالم الأشياء، وغيرها من الثورات غنيمتها في عالم المثل والقيم .
القراءة الأولية تقول إن الظلم مهماز الثورة، والطور الأول للثورة هو الرفض العلني للظلم، وبعد إسقاط الأب الظالم في العشيرة “الطوطمية” يأتي الطور الثاني والذي يستبيح كل المحرمات الأبوية من أملاك ونساء، وتنفلت غريزة الجنس والتملك من عِقالها، في الطور الثالث يحدث الاقتتال الأخوي، لأن كل طرفٍ يُحاول تنصيب نفسه في مكان الدكتاتور الغائب، محاولا شغل المكان المتعذر شغله بعد أي ثورة حقيقية وهو مقعد الدكتاتور.
بعد فترة من الاقتتال الأخوي، يتوصل الإخوة الأعداء أنه لامناص من تبني فكرة وجود محرم والاقتناع بالشروط التي تحد من الحرية وتعطيها معناها بذات الوقت، ويوقنون أن لا أحد يأخد مكان الأب الغائب.
هذا الاتفاق على المحرمات، هو عقدهم الدستوري البدائي الذي توصل إليه الإنسان قبل آلاف السنين، وهو أنفع الدساتير وأكثرها احترامًا في تاريخ الشعوب، لأنه ببساطة مكّن من استمرار الحياة البشرية.
مماهاة مبسترة بين الأسطورة البدائية والأسطورة الفبرايرية يتضح الشبه الكبير، فكلاهما ثار لأن الأب (والرئيس طبقًا لأدبيات التحليل النفسي هو أبٌ على كل حال، قد يكون أبًا طاغيًا منتقمًا مثل القذافي أوحانيًا ودودًا مثل الملك إدريس) كان يستأثر بالموارد واللّذات.
في الطور الثاني من الثورة الفبرايرية حاول البعض من القوى السياسية والجهوية شغل مركز الدكتاتور، والاتهامات التي تصم الآذان من أن ذلك الطرف أو الآخر هم “القحوص الجدد” أو أن تلك الجماعات هي التي تحكم الآن، وذلك يعكس الصراع الواقعي على الرغبة في شغل ذلك المركز، أو هو الخوف من أن يشغل من آخرين.
أما الطور الثالث من الأسطورة “الطوطمية” وهو ما نكاد نجده هذه الأيام هو الاقتتال الأهلي. لا خيار للعشيرة الليبية إلا استيعاب درس العشيرة “الطوطمية” والولوج للطور الرابع دون المرور بالطور الثالث الدامي، الطور الرابع يعني صوغ المحرمات التي لاينبغي مساسها والحقوق التي يجوز التمتع بها.
هل يستفيد الليبي من درس الإنسان البدائي وننجح في صياغة عقدٍ اجتماعي نتقاسم فيه الموارد والحقوق، والإدراك أن التحريم والمنع والعقاب هو أساس القانون – بعض الغوغاء الآن يهرفون أن كل سلطة طاغية، وكل قانون هو قانون جائر، وبالتالي يُمكن نسبة الجميع للدكتاتور الميت- والركون الى عقد اجتماعي ينظم الحياة ويحل محل حاكمٍ يحتكر الموارد واللذات والتشريع.
فهل تنجح لجنة الستين بل نحن كليبيين في صياغة دستورنا العصري الذي ينظم حياتنا كما فعلت العشيرة البدائية بدستورها “الطوطمي” الذي أنهى حرب الإخوة؟! أم أنّنا سنسقط في هوّة بلا قرار هي هوة حرب الإخوة على ميراث الدكتاتور من النفود والممتلكات؟!!.