التفاهمات الليبية و«المادة الثامنة»
د. جبريل العبيدي
التفاهمات الليبية الأخيرة بدأت في العاصمة التونسية وأفضت إلى الاتفاق على إعادة تشكيل المجلس الرئاسي ليصبح له رئيس ونائبان؛ والمجلس الذي كان يتكون من 9 أعضاء لم يحظَ باجتماع كامل أعضائه لكثرة المماحكات والتناطحات السياسية لدرجة الصراع، لأن المجلس برؤوسه التسعة كان مكوناً من أطراف متحاربة ويسعى بعضها لإفناء بعض؛ حيث ضم المجلس برؤوسه التسعة أعضاء من «الإخوان» و«الجماعة الليبية المقاتلة» ذات الولاء لتنظيم القاعدة، وشكلوا أغلبية في المجلس، مما جعل الأمل في أي تفاهمات غير ممكن. الأمر لن يقف عند الاتفاق على عدد رؤوس المجلس الرئاسي؛ بل يتعدى إلى صلاحياته، وكذلك تعديل «المادة الثامنة» التي وضعت لتكون لغماً فيما عرف بـ«اتفاق الصخيرات»، والتي شكلت عائقاً أمام تنفيذه، لأنها كانت تشكل خطراً كبيراً على نواة الجيش الليبي الذي بدأ حديث الانتعاش والعودة للحياة بعد سنوات عجاف لحكومات «الإخوان» لإنهاء الجيش؛ بل والسعي نحو فنائه، في مقابل إنبات أجسام موازية للجيش بأسماء متنوعة، مثل «الدروع» و«اللجنة الأمنية العليا» و«الحرس الرئاسي» أو «الوطني»…
أسماء رنانة، وهي كيانات موازية مؤدلجة، سرعان ما يظهر ولاؤها للحزب والتنظيم، وليس الوطن، والشواهد كثيرة؛ ومنها ما حدث في حرب «فجر ليبيا» حيث اصطفت «الدروع» في القتال إلى جانب «مجلس شورى بنغازي» الإرهابي «وشورى (مجاهدي) درنة»، وخاضت حرباً ضد الجيش الليبي انتهت بدحر أغلبها وفرار الباقين.
المادة الثامنة في اتفاق الصخيرات شكلت طيلة سنتين عائقاً كبيراً أمام أي تقدم في المسار السياسي، لأنها كتبت ووضعت لإقصاء قادة الجيش الليبي؛ وعلى رأسهم المشير حفتر الذي شكل نواة الجيش وأعاد له هيبته المفقودة، التي أضاعها تنظيم «الإخوان» في زمن تسلمه السلطة في ليبيا منذ أحداث فبراير (شباط) 2011؛ حيث شكل أعضاء التنظيم أغلب أعضاء المجلس الانتقالي (سلطة فبراير الحاكمة)، ثم استطاع السيطرة على «المؤتمر الوطني» في عام 2012، رغم أن التنظيم لم يتحصل على الأغلبية الساحقة ولا حتى الأغلبية الآمنة، إلا أن الطرف الآخر وهو «تحالف القوى الوطنية» الذي تحصل على الأغلبية المريحة في البرلمان الوليد (المؤتمر الوطني) لم يكن مؤهلاً سياسياً لخوض تجربة تعج بالخداع والمماحكة والمناورة مع تنظيم عمره في العمل السري والخداع تجاوز حوالي المائة عام، ويتبادل التجربة ويصدرها لأتباعه عبر الحدود من التنظيم الأم في مصر إلى تركيا وإلى قيادته الحالية في قطر. المادة الثامنة قال عنها عند صياغتها النائب الثاني في «المؤتمر الوطني» الممثل لجماعات الإسلام السياسي، إنهم استطاعوا إقصاء المشير حفتر «بجرة قلم»، وكان يعني نص «المادة الثامنة» من «اتفاق» الصخيرات، مما يؤكد القول بأن «الشيطان يكمن في التفاصيل»، وما دخلوا في ماراثون الحوار إلا من أجل هذه المادة التي ستمكنهم من إعادة المشهد وتشكيله وفق رؤية الإسلام السياسي الذي خسر الانتخابات ورفض نتائج الصندوق وأعلن الحرب وتمترس خلف ميليشياته المسلحة التي سبق أن روّج لأنها كتائب تابعة لرئاسة الأركان.
بعد عودة فريق الحوار من تونس، بدأ البرلمان الليبي في إعادة صياغة المادة الثامنة بحيث ضمن عدم المساس بالمناصب السيادية بشكل انتقائي، وجعل نص المادة الثامنة الجديد أن المناصب السيادية لا يتم البت فيها إلا بالاتفاق بين الرؤساء الثلاثة وتطويب البرلمان، مما أدى إلى صعوبة، بل استحالة، وجود القرار الفردي في المناصب السيادية للدولة في قرارات المجلس الرئاسي بتشكيلته الجديدة بثلاثة رؤوس بدل التسعة، وفصل الحكومة عن المجلس الرئاسي. تفاهمات البرلمان ومجلس الدولة الأخيرة قد تفضي إلى حلحلة الجمود وتحريكه في العملية السياسية الليبية، ولكنها ليست كل الحل، لأنها بصيغتها الحالية ستعيد جماعات الإسلام السياسي من نافذة الحوار بعد أن خسروا الانتخابات والحرب والشعب.
……………………
الشرق الأوسط