التايب والأعتر وتأملات في أولمبياد طوكيو
سالم العوكلي
طيلة أيام الألعاب الأولمبية في طوكيو كنت أنام مبكراً وأضبط المنبه على بداية كل يوم من الألعاب الأولمبية، تابعتها بشغف حريصا على ان لا تفوتني لحظة من هذا الجانب الجميل للعالم الذي لا نرى في نشراته الإخبارية سوى الجانب القبيح، بل جمال الكون برمته لأن المتعة لم تعد مقصورة على الأرض، ولكن على تلك الأقمار الصناعية السابحة في الفضاء التي تنقل لنا هذا العناق العالمي حيا ولحظة بلحظة.
امتزج في الحديث عن البدايات القديمة للألعاب الأولمبية التاريخ بالأساطير، لكن المتفق عليه أنها كانت فكرة من أجل وقف كل النزاعات وعقد هدنة تمارس فيها المنافسات الرياضية في اليونان بين ممثلي العديد من دول المدن وممالك اليونان القديمة عبر مزيج من مهرجانات دينية ورياضية، تقام كل أربع سنوات وتوقف خلالها كل النزاعات والأعمال العدائية فيما سمي بالهدنة الأولمبية، وبلغت ذروة نجاحها في القرنين السادس والخامس قبل الميلاد، لكنها بدأت تتراجع وتضمحل مع زيادة سيطرة نفوذ الرومان في اليونان. ولم يبدأ الاهتمام اليوناني بإعادة إحياء هذه الألعاب السلامية إلا أثناء حرب الاستقلال اليونانية عن الدولة العثمانية في العام 1821م. وكان الشاعر اليوناني باتاجيوتيس أول من اقترح إعادتها عبر قصيدته “حوار الموتى”. وأقيمت الألعاب الأولمبية الصيفية في دروتها الأولى الدولية في العصر الحديث في أثينا باليونان خلال الفترة من 6 إلى 15 أبريل عام 1896 . شارك في الدورة 241 لاعبا من 14دولة تنافسوا في 9 ألعاب و 43 مسابقة، سيطر أبطال الولايات المتحدة الأمريكية على مسابقات ألعاب القوة في هذه الدورة، فنالوا 9 ألقاب من 12، غير أن الذهبية الأغلى في سباق الماراثون، كانت من نصيب راعي الأغنام اليوناني سبيريدون لويس، مما جعل الدورة تنجح جماهيريا، وحصل البطل اليوناني على كبش وعربة يجرها حمار ومعاش وقطعة أرض صغيرة تقديرا لعمله البطولي، وقد انتخبت اللجنة الأولمبية، آنذاك، الكاتب والشاعر اليوناني ديمتريوس فيكيلاس رئيسا لها.
كل أربع سنوات مازالت الألعاب الأولمبية تقام في مدينة مختارة من العالم، ولكن ما حصل فيما بعد، بدل أن توقَف الحروب من أجل إقامة هذه الألعاب، أصبحت الألعاب الأولمبية هي التي توقف من أجل إقامة الحروب، كما حدث في أعوام 1916 ، 1940 ، 1944 بسبب الحربين العالميتين، والمرة الأولى التي تؤجل فيها دورة كانت الأخيرة في طوكيو بسبب تفشي وباء كورونا، والتي تابعت أحداثها ما وسعني ذلك، حيث الاستمتاع بإطلالة مختلفة على الجانب الجميل من هذا العالم الذي تملؤه النزاعات والمقابر الجماعية والهجرات والنزوح بمئات الملايين، وحرائق الغابات، فضلا عن هجوم الفيروسات الأصلية والمتحورة وما تثيره من رعب في الكون.
تحدت اليابان هذه الظروف ونجحت في إقامة إحدى افضل نسخات الأولمبياد رغم نقص الجمهور الذي كان يعطيها روحا تنافسية رائعة، غير أن الكاميرات والأقمار الصناعية وطرق الإخراج والإحصائيات التي تستخدم أحدث التقنيات والتطبيقات عوضت هذا النقص، وجعلت الفرجة عليها من البيت أكثر متعة.
اليابان التي احتضنت هذه النسخة المؤجلة، مازالت تتعافى من كارثة تسونامي التي وقعت العام 2011 ، والتي بلغ فيها عدد
الوفيات 16 ألف حالة، بينما قدرت تكلفة إعادة الإعمار ب 122 مليار دولار، وكان من أجمل مشاهد دورة طوكيو باقات الزهور التي توزع على الفائزين بالميداليات وهي مقطوفة من الحدائق الصغيرة التي زرعها الآهالي تكريما لضحاياهم في تسونامي، فكان الحزن الذي زرعها يتحول إلى فرح في عيون الفائزين.
تعكس الألعاب الأولمبية إمكانات الجسد الإنساني وشطحاته الجمالية حين يتاح له فضاء من الحرية والتدريب والحلم، وربما تنعكس حالات تكبيل الأجساد، وأجساد الإناث خصوصا، في المجتمعات المغلقة على ما تحققه هذه الدول من نتائج ضعيفة في كل دورة، فقد خلق الجسد الإنساني بإمكانات كبيرة تجعله يكسر المسافات والأزمنة والارتفاعات مرارا وعبر كل دروة، لكن حيثما تقمع هذه الأجساد وتصادر طاقاتها وإمكانتها تذهب صوب الترهل والذي ينتج عنه أيضا ترهل في العقل.
أستاذة وعالمة الرياضيات النمساوية، كيزنهوفر؛ التي تدربت وحدها بدون مدرب، استطاعت أن تحرز ذهبية سباق الدراجات على الطرق متفوقة على كل المحترفات صاحبات الأرقام القياسية . أما الرباعة الهندية ميراباي تشانو القادمة من قرية نونبك كاتشنج المغمورة، والمتحصلة على الميدالية الفضية في رفع الأثقال، فقد دعت منذ عودتها إلى الهند سائقي الشاحنات الذين يترددون على الطريق القريب من منزلها في القرية، وقررت التكفل بنفقات علاجهم تقديراً لتضحياتهم معها ونقلها مجاناً إلى مركز التدريب الأولمبي في إمبال، ما قلل الإنفاق المالي عليها من قِبل أسرتها بقدر كبير. من جانبها، قالت والدة ميراباي تشانو، سايخوم أونغبي ، التي تدير كشكاً للشاي في القرية: إن الشاحنات كانت تغير طريقها لكي تمر على الكشك لحمل ابنتها في معظم الأيام في لفتة إنسانية لا تقدر بمال.
هذه مشاهد قليلة مما يحفل به هذا المهرجان من جمال ولقطات إنسانية تجعل من الفوز والانتصار قيمة سامية وراقية في السلام، حيث لا قيمة اسمها الفوز أو الانتصار في الحروب، فالكل خاسر والأوسمة والنجوم الفضية التي توزع على أمراء الحروب ملوثة بدماء الأبرياء.
لكن لا بد من التعريج على بلدي ليبيا في سياق الحديث عن الأولمبياد، وطرح سؤال مقلق حول الغياب الليبي عن هذا المحفل الكبير الذي لم يسبق أن رفع فيه العلم مرة واحدة بكل الألوان التي تعاقبت عليه، وكانت أول مشاركة لليبيا في الألعاب الأولمبية في دورة 1964 في طوكيو في اليابان حيث شاركت برياضي واحد فقط حينها ، ومن طوكيو إلى طوكيو وعبر 56 عاما، لم تتمكن ليبيا حتى الآن من الفوز بأي ميدالية أولمبية منذ استقلالها.
الفترة الملكية؛ التي قضت سنوات مشغولة بتأهيل البشر جسديا عبر حربها على الأمراض المستوطنة مثل السل والرمد والجرب وسوء التغذية، وضعت رغم ظروفها المادية الصعبة بعض البنى التحتية للرياضة فأنشات أول مدينيتن رياضيتين مرفقتين بمضامير للألعاب الفردية في طرابلس وبنغازي، وطيلة 40 سنة من ضخ النفط بكميات وأسعار عالية لم تضف أي منشأة رياضية في هذا المستوى، إلا ملعب كرة قدم واحد أطلق عليه اسم دكتاتور من أمريكيا اللاتينية. كما دعم النظام الملكي النشاط المدرسي عموما بما فيها أنشطة الألعاب الراياضية الجماعية والفردية، غير أن النظام اللاحق عاث في هذه التأسيس خرابا ضمن مقولاته الجماهيرية التي تصادر قدرات الفرد، وضمن سيكولوجية الحاكم المتوجس من أي نجم يظهر في الساحة الليبية غيره، فتحولت المدارس إلى ثكنات وبدأ النشاط الطلابي يضمحل ويتلاشى مع الزمن، وتقلد أبناء الحاكم رئاسة أهم المؤسسات الرياضية : اللجنة الأولمبية والأتحادات الرياضية، فأصبحت ميادين للصراع بين الأبناء، وفي الملاعب منع نطق اسماء اللاعبين حتى في كرة القدم، وتحولوا إلى أرقام وفق خطاب يمنع الشهرة والتميز والنجومية، بينما دوري كرة القدم أصبح طاولة قمار لأبنائه حين توزع ولاءهم بين ناديي العاصمة، وأدى هذا الصراع الذي سيس الرياضة إلى هدم نادي الأهلي العريق ببنغازي وإزالته من الوجود. لكن يظل رهاب القائد من نجومية أحد غيره هو المسيطر على كل الفضاءات الرياضية والفنية في ليبيا.
حين نبدأ الحديث عن ليبيا تبدأ المنغصات التي كانت تعكر صفو الفرجة على أولمبياد طوكيو، وأولها انقطاع الكهرباء رغم اشتراكي في القنوات الناقلة بمبلغ يعادل مرتب شهرين، إضافة لما يعتريني من حزن وكدر وأنا لا أرى علم بلدي إطلاقا، بينما أرى أعلام دول صغيرة وفقيرة ترتفع في فضاء الألمبياد مع أناشيدها الوطنية، مثل جزر الباهاما التي عدد سكانها ربع مليون ومجموع ما أحرزته في تاريخ الأولمبياد 12 ميدالية منها 5 ذهبيات، أو كينيا التي ارتفع علمها وعُزف نشيدها مرتين في الحفل الختامي.
تلك الدموع التي كانت تنزل من عيون الفائزين تعبير بليغ عن معنى الهوية الذي كثيرا ما لا نتفق في الجدل حوله، تلك الدموع هي عصير الهوية وروحها. ولكن من أين لنا بهوية تنافس في محافل الأرض، ونحن في دولة حرم لفترة طويلة ذكر اسمها (ليبيا)، وتحول فيها، لعدة عقود، التعبير عن الهوية الوطنية تهمة بالعمالة والرجعية والشعوبية في سياق إدماج المجتمع في قوميات كبرى أو خرائط جغرافية قارية، وفي دولة ظل زعيمها لأكثر من أربعة عقود متوجسا من النجوم أو التميز أو التفوق لأي أحد من رعيته، وملأ كتابه الأخضر بهرطقاته المجنونة حول الرياضة الجماهيرية التي ما عاد يرغب في ممارستها سوى في المسيرات الشعبية والهتافات المؤيدة له، متنبئا للمدرجات بأن تختفي تماما وبان تكون لعبة كرة القدم بين 11 ألف من كل فريق بل 11 لاعبا.
تذكرني مسألة الهوية والتميز والنجوم بمقالة نشرها نجيب الحصادي ضمن عاموده في صحيفة الصدى الإمارتية العام 2005: تحت عنوان “رموز الهوية” يتطرق فيها لمدخل فلسفي حول هذه المسألة المعقدة، ليصل إلى أزمة الهوية في مجتمعنا عبر طرحله لمثال حي من نموذجين ليبيين تألقا خارج الحدود، يعكس حبهما من الناس الفخر بالهوية في ذلك الوقت. يقول نجيب الحصادي : “لا تبدأ الأمم في التحضر إلا بعد أن تستكمل بناها التحتية وتشرع في التمتع بوقت فراغها (وايتهد). والفن، كالرياضة، وجه من وجوه الحضارة، المعاصرة على وجه الخصوص. بيد أن مماهاة الحضارة، شأن مماهاة الوطن، بعوارض سياسية (أو حتى فنية) خطأ تاريخي، فكلاهما أخصب من أن يُختزل في أي وجه. التغير الذي طرأ على مجتمعنا في العقود الأخيرة ليس حاسما لأنه ركز على بعد جديد من أبعاد الحضارة، فهذا ديدن ثقافتنا، بل لأنه استعاض به عن منظور دأبت الأجيال السالفة على التقليل من شأن كل ما عداه، عنيت المنظور السياسي. غير أننا، بالرهان على وجه حضاري دون غيره، إنما نعيد خطأ الأسلاف، الذين كانوا يكْبُون كلما كَبَتْ خيول ساستهم. الاحتفاء الذي لقيه الفنان أيمن الأعتر ولاعب الكرة طارق التايب، من قبل الليبيين على أقل تقدير، لم يكن إلا شاهدا جديدا على مثل هذا التغير. لا تثريب على مثل هذا الاحتفاء ما دمنا ندرك أن الطرب والرياضة بعدان من أبعاد الحضارة، وجهان من أوجه الوطن. الوجه الواحد كالحقيقة الواحدة، خرافة تلحق الضرر بالواثق منها. والحقيقة إنما تكمن في البحث عنها، والحقيقة التي تنتصر زائفة، لأنها تختلس فضيلة البحث (فيصل دراج).”.
ومع المقالة سيُلحق، فيما بعد، هامش مهم، نصه كما يلي : ” نُشر هذا المقال في صحيفة الصدى الإماراتية عام 2005، وقد صادر أمين الثقافة (وزير الثقافة الليبي) آنذاك هذا العدد بسبب هذا المقال، وبسببه أيضا قررتْ هيأة تحرير المجلة وقف التعامل معي، لأني سببت لها خسارة مالية ليست على استعداد لتحملها ثانية!”. وهذا مثال يكفي، وقد يسهم مع أسباب أخرى في الإجابة عن سبب فشل ليبيا في الألعاب الأولمبية.
أما السنوات العشر الأخيرة فلم تزد سوى الخراب في بلد كانت في الأصل خرابة، وما عدنا نشهد فيها سوى ماراثونات السباق على السلطة والغنائم والمال الفاسد.