التاريخ بين خطّيْ العدالة والثأر
طيب تيزيني
تطلّ علينا اليوم إشكالية عظمى تتجسد في أوهام الخلاص وقسوة إخفاقه مجسّدةً بمطالب الثأر. في سورية ابتدأت الماحقة الكبرى منذ ست سنين، دون تسجيل إشارات كافية لما يمكن أن يمثل انحناءة على طريق الانتصار والتأسيس لبداية أو بدايات جديدة باتجاه موطئ جديد لانتصار الحرية والسلم والتقدم. هاهنا، بدأت إرهاصات أولية باتجاه ذلك من موقع التشكيك في بزوغ مظهر من مظاهر الإخفاق، أي من موقع ما ظهر أن التقدم التاريخي في العالم العربي غير محتمل في المسار العربي الحديث، أو مشكوك في مصداقيته واحتماله على صعيد المشخص.
إن بقاء الصراع الوجودي في سورية قائماً ومحتدماً بقوة في حالات كثيرة، راح يخترق مواقف ومنظومات من المتفائلين، حتى الآن، أي على امتداد ست سنوات، حيث راح يفرض نفسه على اعتقاد بأن القضية الثورية لم تجد حلاً إلا بتفكيك سورية.
وفي الواقع، أصبح الوضع الآن مع تعاظم الوحشية والتجويع والتفكيك وإصرار أطراف الحرب، يثير بعض الهوس واليأس والأسى ورفع الأيدي في أوساط متعددة وإن قليلة من المتحاربين، خصوصاً حين راح الوضع يوحي بإحجام الدول الكبرى إلا القليل منها، عن الإسهام في إطفاء النار، أي خصوصاً مع نجاح الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب في انتخابات الرئاسة، وظهور الاعتقاد بنشوء توافقات بين الأميركيين والروس والإيرانيين وغيرهم على أن الحرب السورية إن هي إلا تعبير خطي عن الحروب بين بلدان العالم. وفي الحقيقة، اتضح من ركام الأحداث أن الولايات المتحدة متواطئة مع الروس والإيرانيين وربما غيرهم على تخفيف الصراع السوري، لكن دون اجتثاثه عبر حلول سلمية أولية ممكنة. وزاد الأمر وضوحاً بعد انكشاف سُتُر لفّعت مواقف أولئك بالتواطؤ مع إسرائيل والتعاون معها، ما أثار الرغبات في تأجيج الصراعات ضد العرب وفي بلدانهم.
في هذا كله راحت تبرز بعض الكوى في العالم العربي، وضمن بعض المناطق الأخرى خارج الحدود، ويُراد لها أن توحي بعبثية العمل على إخماد النار في العالم المذكور، وسورية خصوصاً ضمنه. وشيئاً فشيئاً راح يظهر أن المطلوب في ذلك إعادة بناء الخريطة الديموغرافية على أسس استبدالها بخريطة ديموغرافية تمتد «من المحيط إلى الخليج». وهذا ما يفتح الباب العريض الطويل لإضافة سورية إلى فلسطين في إطار «المشروع الغربي العولمي والإسرائيلي»، هذا إذا لم نضف أن إسرائيل الصهيونية إن هي إلا تعبير وحشي عن العولمة المتجسدة بالسوق المطلق، بمالها وأشيائها. وهنا نكاد نوافق على أن الخط الذي تحدثنا عنه فوق والمتمثل بتعاظم حضور الإشارات إلى أن خط التقدم العربي الراهن راح يحاصر من هنا وهناك وهنالك، وإن كان هذا الحضور تعبيراً جزئياً وليس عاماً كلياً.
أما الأمر الآخر الذي يظهر ببروز في سياق إبستمولوجي فيكاد يقرأه البعض بأنه الخط الأخير الفاصل عن التاريخ العربي بعجره وبجره، ومن ثم، يتعين على النخب الفكرية الأخيرة في العالم العربي أن تدلي بكلمتها، معلنةً «العصر» أو «القبر». فإما الإصرار على الحياة الملفّعة بالكرامة والديموقراطية والتنوير الحداثي، وإما «ما لا نعرف ما يكون الوضع عليه، في المنظور القريب والبعيد».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
صحيفة “الاتحاد” الإماراتية