البوصيري عبدالله يصف لـ218 المشهد المسرحي الليبي
خاص 218| خلود الفلاح
البوصيري عبدالله كاتب مسرحي ليبي، يؤمن أن المسرح الليبي لا يعيش أزمة نصوص إنما يعيش أزمة وعي برسالته ووظيفته ودوره في التثقيف والتنوير والتسلية.
يصف البوصيري عبدالله المشهد المسرحي الليبي بالطويل، وليس هذا المسرح فقط الذي يعاني بل كل أشكال الثقافة الليبية.
في هذا الحوار يتهم البوصيري عبدالله المسرح الليبي والعربي بعدم قدرتهما على جعل الفرجة المسرحية عادة وتقليدا مهماً.
ـ كيف تصف لنا المشهد المسرحي في ظل ظروف معيشية وسياسية تزداد تعقيداً يومياً؟
-إذا تتبعنا تاريخ الحضارة نجد أن الإنسان بدأ يفكر ويبدع ويخترع عندما توفر له الغذاء والأمن، ونظراً لأهمية هاتين النعمتين ذكرهما الله في سورة قريش باعتبارهما أساس سعادة المجتمع، إذ قال وهو أصدق القائلين: (فليعبدوا ربَّ هذا البيت* الذي أطعمهم من جوعٍ وأمنهم من خوف).
فكيف يستطيع المواطن الليبي أن ينتج مسرحاً أو شعراً أو أدباً إذا كان في ظل ظروف معيشية وسياسية تزداد تعقيداً يوماً تلو يوم حتى افتقر إلى أساسيات الحياة الكريمة ألا وهي الغذاء والأمن؟ وهذا الواقع المعيشي –بالمناسبة- ليس بجديدٍ على ليبيا التي تعودت على غياب الأمن وغياب بعض الغذاء منذ أن وُجدت على هذه البسيطة، ولهذا السبب يقال إن ليبيا تفتقر إلى الرموز الثقافية، وإن مساهماتها الفكرية تكاد تكون غائبة لشدة ما خاضت من حروب وقلاقل سياسية لعينة، ولنا فيما ذكره ابن سعيد الشماخي في كتاب (السير) الذي لم يجد مكانا يكتب فيه “لتشتت البال وتعدد الأحوال، ولأسباب غير قليلة من التفاقم في البلاد وشدة القحط وتزلزل البلاء”.
وإذا كانت مصائب البلاد الليبية في الأزمنة الغابرة من خارج حدودها، ومن أناس على غير دين أهلها، فإن مصابها اليوم من أهلها.. وبتوقيع أبنائها، فأصبحت مثل تلك القرية التي ذكرها الله في سورة النحل/ الآية 112 (لاحظ الرقم ودلالته) التي “كفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون”. وهكذا يبقى المسرح الليبي، بل الثقافة الليبية بشكل عام متخلفة عن عصرها طالما يوجد على أرضها الطاهرة عشاق الكراسي والمكاسب.. هذا هو المشهد المسرحي يا سيدتي، إنه مشهد طويل ومُمل وتافه، ونسأل الله أن يعجل بإسدال الستارة عاجلاً وليس آجلاً.
ـ يرى بعض النقاد أن الدراما التلفزيونية طغت على السينما والمسرح، فالقتهما خارج المنافسة.. ما رأيك؟
-لا شك في أن الدراما التلفزيونية تتطور تطوراً سريعاً بفضل تطور وسائل الاتصال كالتلفزيون والهاتف المحمول والانترنيت، أي أنها صارت وسيلة ترفيه في بيت المشاهد وفي مكتبه وفي جيبه كذلك. أما القول بأنها طغت على السينما والمسرح فالقتهما معاً خارج المنافسة، فذلك قول يتسم بالسطحية. فأيُّ منافسة هذه التي يتحدثون عنها؟
إن فنون الدراما مكملة لبعضها البعض، وكل مجال من مجالاتها له نكهته الخاصة، وله مكانه وزمانه، كما له عشاقه ومريدوه, وإذا ثمة منافسة فهي منافسة قائمة في سوق المال حيث يتصارع المنتجون من أجل السيطرة على أسواق الفن. ثم إن الدراما التلفزيونية أنواع، فمنها دراما السهرة الواحدة، ومنها دراما السلاسل، وهي مجموعة سهرات منفصلة وليست متصلة يربط بينها خيط واحد كما هو الحال في سلسلة (الهارب) الأمريكية، ومنها دراما المسلسلات ذات النفس الطويل والأجزاء المتلاحقة وهذه غايتها تجارية أكثر منها فنية، ولذا تتسم برتابة الإيقاع، والتكرار، وإطالة المشاهد وتمطيطها، فعن أيِّ نوعٍ من هذه الأنواع الثلاثة يتحدث السادة النقاد.
وختام القول: ليست الوسيلة هي التي تصنع قيمة الدراما فنياً وفكرياً، إنما تصنعها لغة الفن المتقن والجوهر الرّصين.. وهذا الجوهر هو الذي منح المسرح القدرة على تأسيس أدبه حتى سما فأدرك جائزة نوبل، كما أسس صحافته الخاصة ومهرجاناته المبهرة التي مازالت تقام سنوياً في كل أنحاء العالم، وكذلك فعلت السينما، فهل استطاعت الدراما التلفزيونية بأنواعها الثلاثة صُنع شيءٍ كهذا؟!
ـ هل عاش المسرح الليبي عصراً ذهبياً؟
ـ لم يعش المسرح الليبي عصراً ذهبياً واحداً بل عاش –ويا للعجب- ثلاثة عصور ذهبية، كان العصر الذهبي الأول في مرحلة الانتداب البريطاني، حيث نشط المسرح في الفترة الواقعة بين سنتي 1944وسنة 1948م. وكان نشاطه يدور على ستة محاور هي: 1-الفرق المسرحية العاملة. 2- فرق النوادي الثقافية والرياضية. 3- فرق الروابط الشبابية.4- الفرق الأجنبية المقيمة. 5- الفرق الإيطالية الزائرة. 6- المسرح المدرسي الذي كان له موسم سنوي يعقد بمناسبة المولد النبوي الشريف.
والعصر الذهبي الثاني تمّ في عهد الأديب خليفة التليسي وزير الإعلام والإرشاد وقتئذٍ، وامتد هذا العصر لمدة ثلاث سنوات (1964-1966م.) في هذه المرحلة تأسس معهد جمال الدين الميلادي، وفرقة المسرح الوطني، وتأسيس اللجنة العليا للفنون والآداب بها قسم خاص بالمسرح وفنونه.
وتمَّ تنظيم أول دورة لفن التمثيل، كما شهدت هذه السنوات المزهرة بداية النشاط المتكامل الذي نظمته وزارة الشباب والشؤون الاجتماعية وقد شمل البرنامج مسابقات رياضية وأدبية وغنائية ومسرحية. وخلالها بدأ النقد المسرحي التطبيقي يطل برأسه متلمساً الطريق بفضل أقلام سليمان كشلاف، ومحمد الزوي، وفوزي البشتي ، علي حمزة، والصيد أبو ديب وقادربوه، وعبد السلام زقلام. وبالإمكان الوقوف على هاتيك العروض المسرحية والمحاولات النقدية في صحف المرحلة، وأخص بالذكر جريدتي طرابلس الغرب و الرائد.
أما العصر الذهبي الثالث فكان بفضل عاشق المسرح الأستاذ إبراهيم العريبي الذي كان يدير قسم المسرح في إدارة الفنون والآداب. وقد امتدت أعوام هذا العصر من عام 1971إلى عام 1975م. وخلاله نشأت أكثر من عشرين فرقة مسرحية مما يفيد امتداد النشاط المسرحي جغرافياً حتى وصل إلى الجنوب الليبي، إذ أسس قسم المسرح ست فرق وطنية شبه متفرغة في مدينة سبها، ومصراتة، واجدابيا، وبنغازي، والبيضاء، ودرنة بالإضافة إلى فرقة المسرح الوطني الأم التي تأسست قبل ذلك.
عرفت هذه المرحلة المهرجانات المسرحية الخاص منها بالفرق أو تلك الخاصة بالمهرجان المدرسي، كما عرفت الندوات التي كانت تعقد عقب كلِّ عرض مسرحي، مما يمكن اعتبارها وسيلة جيّدة لتذوق الفن المسرحي ومعرفة مكامن الإبداع فيه. ومن الجانب الإداري قدّم قسم المسرح خدمات جليلة إلى الفرق المسرحية تمثلت في توفيرَّ مقر لائق لكل فرقة مسرحية وبلا مقابل، وتوفير مكان العرض بلا مقابل أيضاً، بل تحمل قسم المسرح مسؤولية إعداد وتركيب المناظر المسرحية لكلِّ عمل مسرحي، وهذه الخدمات دللت الصعاب أمام الفرق المسرحية ووفرت المصروفات.
ـ في مسرحيتك (لعبة السلطان والوزير) وظفت الموروث الشعبي الليبي، هل حاولت بذلك التأكيد على هوية المسرح الليبي شكلاً ومضموناً؟
-لا أستطيع أن أقول ذلك، فهُوية المسرح في أيِّ مكان لا يحددها فرد واحد مهما كانت كفايته وقدراته. فالمسرح جهد جماعي لابُدّ أن يكون التفكير في هُويته ومنهجه تفكيراً جماعياً، ولهذه الغاية نسمع بجماعة (المسرح الاحتفالي) المغربية وجماعة (مسرح السامر) السورية، وجماعة ( مسرح فوانيس) الأردنية، وصدور بيانات تحدد اختيارات واجتهادات وآراء هذه الجماعات. إن الفردية مرض خطير على الفنون كافة. وعلى كل ذي عقل مستنير أن يتحاشى هذا المرض. أما بالنسبة لمسرحية (لعبة السلطان والوزير) فكلّ ما أريد أن أقوله عنها يتلخص في الآتي: إن في عاداتنا وتقاليدنا وألعابنا وحكاياتنا الشعبية كثيرا من العناصر التشخيصية ينبغي الاستفادة منها. وإن هذه العناصر لا تخلو من دلالة ذات قيمة على الصعيد الفكري.
ـ هل يمكن اعتبار مسرحية (وطن/ 1908) لمحمد قدري المحامي الانطلاقة الحقيقية للمسرح الليبي؟
-لا.. أبداً لم تكن هي الانطلاقة الحقيقية للمسرح الليبي، بل الانطلاقة الحقيقية كانت أسبق، ولي في ذلك حجج ثلاث:1- إن مقالة (حبّ الوطن) المنشورة في جريدة الترقي (العدد الصادر في أكتوبر 1908م.) والتي نقلت لنا وقائع عرض المسرحية المذكورة أشارت إلى أن هذا العرض هو عرض ثانٍ، وليس عرضاً أولياً، 2- إن وقائع العرض المسرحي لا تحمل ما في البدايات –عادة- من شوائب وأخطاء، 3- إن مقالة (فن التشخيص) التي نشرت على نفس الجريدة في عدد ديسمبر 1908م.
تشير إلى ما يفيد “أن شبيبتنا الذين جاهدوا في كسر أبواب المحافظة على العادات قد توفقوا باستعماله” أي استعمال المسرح، ثم لا ننسّ أن مسرح امبوراخ الكائن بزنقة الخمري بالمدينة القديمة قد تأسس في سنة 1880م. وأن الطائفة اليهودية (وهؤلاء ليبيون أبٌ عن جد وإن اختلفت ديانتهم) شرعوا يقدمون فوق خشبته مسرحياتهم المستلهمة من التوراة ابتداء من سنة 1882م. مثل مسرحية: يوسف الصديق وإخوته، ومسرحية الملكة إستير، ومسرحية شمشون ودليلة.
ولئن كانت مسرحية (وطن) ليست هي البداية الحقيقية فإنها هي الانطلاقة الصحيحة لأنها قُدِمت في ظروفها الموضوعية؛ فمن الناحية السياسية جاء عرضها احتفاء بصدور قانون الحريات (المشروطيت)، وان اختيار مسرحية وطن لمؤلفها الشاعر التركي والمناضل الجلد نامق كمال.
يأتي ضمن سيطرة فكرة الرابطة العثمانية التي سادت في الأوساط السياسية والثقافية في خواتيم القرن التاسع عشر،ولقد التفت حولها الفئة المستنيرة من الأدباء والمفكرين ورجال الدين، وذلك دعماً للدولة العثمانية بوصفها القوة المدافعة عن حياض الإسلام، ويعتبر شكيب أرسلان من أشهر الدعاة لها والمدافعين عنها. كما يدل اختيار مسرحية (وطن) على ذوق أدبي راقٍ، وعلى حس فني رفيع، فهي مسرحية حبِّ وحرب، تمزج في لعبة درامية مبهرة مشاعر العشق المزدوج، أعني حب الحبيب وحب الوطن. وهكذا نرى أن اختيار المسرحية يهدف إلى شحن المشاعر الوطنية، ومحمد قدري يعلم أن إيطاليا في تلك الأثناء كانت تشحذ سكاكينها لنحر أبناء وطنه.
ـ هل لدينا مشاهد للمسرح الليبي؟
– إذا نظرنا إلى هذه المسألة من الناحية النسبية فالمسرح العربي كله يفتقر إلى المشاهد، أذكر أن فرقة الفنانين المتحدين المصرية كانت تفخر بان مليوني مشاهد شاهدوا مسرحيتها (مدرسة المشاغبين)، فنسبيا يعتبر هذا العدد مرتفعا وغير مألوف، ولكن ماذا يساوي أمام عدد السكان.
وقد انبهرت هيئة تحرير جريدة (الركح) أن ألفي مشاهد شاهدوا مسرحيتي (القاتلات) في ليلة واحدة، فماذا يساوي هذا العدد أمام (2.500,000) من مجمل سكان مدينة طرابلس. مع ملاحظة أن هذا العدد هو طفرة من الطفرات وليس عددا ثابتاً يعتمد عليه المسرح في تبليغ رسالته الفكرية والفنية.
ومن ناحية ثانية عن أيِّ نوع من المشاهدين نبحث، هل المشاهد العابر الذي جرّته قدماه صدفة إلى أبواب المسرح فولجه فوجد فيه متعة حسية؟ أم المتفرج الحريص الذي درج على متابعة النشاط المسرحي بوصفه جنساً من أجناس الثقافة؟ إن النموذج الأول موجود.. موجود، وعلى استعداد لدفع الثمن، ولكن له شروط، قد تكون أشد قسوة من شروط (المرابي شايلوك).
أما النموذج الثاني فهو حديث خرافة. والغريب في أمر المسرح الليبي أن يكون أشد خصومه، بعد رجال الدين والمسئولين، هم الأدباء أنفسهم. ولا شك في أن الأسباب كثيرة، من ضمنها عدم استمرارية العروض، ونوعية المسرحيات، وقصور في الحرفية. وهنا نخلص إلى القول: إن المسرح العربي بشكل عام لن يستطيع أن يؤسسَ علاقةً وجدانية مع الجمهور العربي ما لم يسعَ إلى جعل الفرجة المسرحية عادة من عوائد الأسرة العربية، أي أن يكون لها تقليد ترتاد فيه المسرح مرة كلِّ شهر، وليس مرة كل أسبوع، كما هو الحال في المجتمعات الغربية.
ـ يرفض المسرحيون القول إن هناك (أزمة نص مسرحي يحترم عقلية المتلقي.. نص ينتقد ويحلل) وكيف ترى المسألة؟
– أوافق على هذا القول من حيث المبدأ كون المسرح لا يعاني أزمة نص، ولكن لابدّ من الإشارة لما في هذا القول من تعميم وتبسيط يوحي بأن كلَّ النصوص التي قدمها المسرحي الليبي –منذ بدايته- هي نصوص تحترم عقلية المتلقي. وهي أيضاً تنتقد وتحلل، فهذه شهادة طيبة في حق مسرحنا، ولكنها -للأسف- غير واقعية، ويا حبذا لو دعم أصحاب هذا القول رأيهم بذكر عناوين النصوص المسرحية الواقع عليها حكمهم الإيجابي هذا. وحيث أنهم لم يفعلوا حُق لنا الاختلاف حرصاً على عدم وضع كل النصوص في سلة واحدة.
وللحقيقة نقول: إن جلّ نصوصنا المسرحية لا تحترم عقلية المتلقي لما فيها من إسفاف وسطحية، وجهل بأصول التأليف المسرحي، ولعدم استفادتها من التراث والأسطورة والتاريخ، وبسجن موضوعاتها داخل الفضاءات المغلقة. ثم إن أغلبها تعوزها القدرة على تحليل الظاهرة أو القضية التي تتناولها، وهي في الوقت ذاته متهمة بالجبن لتخليها عن موقفها النقدي فيما يتصل بالفساد الذي ينخر جسد البلد، ولا ريب في أن ثمة نصوص جادة تحترم فعلاً عقلية المتلقي، ولكنها قليلة وقد تغفل عنها عين الناقد إن وُجد الناقد.
وعلى العموم.. فالمسرح الليبي لا يعيش فعلاً أزمة نصوص من أي نوع من الأنواع، فالنصوص على (قفا من يشيل)، إنما يعيش أزمة وعي برسالته ووظيفته ودوره في التثقيف والتنوير…والتسلية الراقية. أما مسألة احترام عقلية المتلقي فتلك مسألة تعتمد على احترام المسرحيين لأنفسهم أولا، واحترامهم لأدواتهم ثانياً، وذلك بتطويرها بواسطة الاطلاع والدراسة والدربة.. وكيفما تكونوا يكون مسرحكم.
ـ ما هي المتغيرات التي مرَّ بها المسرح الليبي؟
ـ متغيرات كثيرة وخطيرة، سياسية وإدارية وفكرية وفنية. وحيث إني لا أستطيع أن أجملها في هذا اللقاء محدود المساحة. فسأتحدث فقط عن المتغيرات الفكرية والفنية. وهنا تجدر الإشارة إلى أن المسرح الليبي نشأ مع نشأة الوعي السياسي والحس الوطني والقومية كما أسلفنا القول، ونزل إلى الشارع وقدم عدة عروض لصالح الفقراء والمحتاجين، وعروض أخرى لصالح عمال الميناء الذين رفضوا إنزال البضائع من البواخر النمساوية احتجاجاً على مواقف النمسا العدوانية تجاه جزيرتي البوسنة والهرسك الإسلاميتين… أي بمعنى إنه مسرح ملتحم بالأحداث التحاماً عملياً. وقد حافظ مسرحنا على درجة الوعي لديه من خلال اختيار نصوص تاريخية تبرز شجاعة العرب وغيرتهم على دينهم وأوطانهم، كمسرحية (طارق بن زياد)، و(فتح الأندلس)، و(صقر قريش). وتعميقاً لهذا الوعي كانت لغة المسرح هي اللغة الفصحى.. لغة العرب… لغة القرآن الكريم مع أن البلاد كانت ترزح تحت وطأة الاحتلال.
وفي العهد الملكي تغير الحال فصارت المسرحيات تتجه إلى القضايا الاجتماعية، وتنطق باللهجة العامية.. لغة الشوارع والحواري، إنما كان لها موقف نقدي على الصعيد الاجتماعي كما نلاحظ في مسرحيات: (حوت يأكل)، و(مشاكل وحكايات)، و(شباب يحترق)، وكان لها أيضاً موقف نقدي غير مباشر من الفساد السياسي والإداري عبّرت عنه كثير من المسرحيات الغامزة واللامزة نذكر منها: مسرحية (اللي أظنه موسى يطلع فرعون)، و(العسل المرّ)،و(ما يدوم حال).
وفي العهد الجمهوري تغير الحال بارتفاع مكانة المسرح على الصعيد الإداري والتنظيمي حيث تأسست هيئة المسرح والموسيقى والفنون الشعبية، وانتعش المسرح فنياً بفضل الدورات التدريبية والبعثات الدراسية التي أنتجت لنا كفاءات طيبة في فن الإخراج وفن تصميم المناظر، حتى حقق المسرح عصره الذهبي الثالث.
أما في العهد الجماهيري فانعدمت الثقة في المسرح وأهله، ونتج عن ذلك أن أصبحت الفرق المسرحية تعج بالمخبرين والجواسيس، وتناوب أعضاء اللجان الثورية على إدارة المسارح والمؤسسات الثقافية، وحذرت الدولة من التعامل مع المسرحيات العالمية باعتبارها ضرباً من الغزو الثقافي. وحُجبت بعض المسرحيات بحجة إنها غير مواكبة لتطلعات وأهداف النظام، فيما أغدقت الأموال على مسرحيات النفاق والتزلف.
هذا يا سيدتي غَيْض من فَيْض، ولعلكِ والقراء الأفاضل تلاحظون أن كلَّ رياح التغيير جاءت -للأسف- على غير ما تشتهي الفرق المسرحية، لذا قطع المسرحيون المخضرمون اتصالهم وتواصلهم مع المسرح حتى على صعيد الفرجة.