البغدادي .. داعش .. ليبيا
طه البوسيفي
لم تنطفئ شعلة التنظيم بعد، فحتى وإن فقدنا الموصل والرقة وهُزمنا في سرت وبنغازي ودرنة ، فنحن قادرون على أن نصبح ذئاباً منفردة تنهش كل مرتد وخائن ورويبضة ، هذا ما حاول إيصاله أمير التنظيم أبو بكر البغدادي في كلمته التي لم يعرف مكانها والتي كانت طويلة حتى أنها لامست سقف الخمسين دقيقة ، فعلى الرغم من الضربات الشديدة التي تلقاها عناصر التنظيم في أغلب حواضنه وأماكن تجمعه وسيطرته في العراق وسوريا ومن بعدهما ليبيا ومصر، حاول البغدادي أن يقلل من شأن الخسائر المؤلمة باكتفائه القول : إن أرض الله واسعة ، والنصر ليس نصراً بالسيطرة على الأرض بل في التأثير ، عملاً بجملة العرب الشهيرة (إذا أطعمت فأشبع ، وإذا ضربت فأوجع ) .
كلمة البغدادي انتشرت كفيروس الإيبولا في أدغال أفريقيا ، وكالريح الذارية وسيل العرم ، فسرعان ما تناقلتها وسائل الإعلام المحلية والغربية ، أفرغت لها مساحات واسعة ، وبكل تأكيد ستخضع للدراسة والتحليل من قبل أجهزة المخابرات في الدول الغربية وأيضاً أنظمة البلدان العربية التي هاجمها البغدادي ووصف قادتها بالمرتدين ، سيكثفون من وجود أجهزتهم الأمنية ، سيرفعون من تأهبهم ، وسيزيدون ميزانيات دفاعهم ، سيطورون أنظمتهم الدفاعية وقدرات مقاتليهم وعناصرهم الأمنية ، إلا في ليبيا ، لن يحدث كل هذا ، لأنه ببساطة لا توجد دولة كي تقوم بكل ما يجب القيام به لحماية الوطن والشعب ، في البوابات تجد شباباً ليسوا مدربين ، يقفون فقط لأن الكتيبة الفلانية تدفع أكثر من الكتيبة العلانية ، فليس هنالك حس أمني وإستراتيجية تطبق على الأرض ، فصار تسلل وتحرك عناصر التنظيم سهلاً ويسيراً بدليل أن معظم عملياتهم في ليبيا تنتهي وقد حققت أغراضها أو جزء كبيراً منها ، أكبر قدر من القتلى ، ومن الدمار ، وانغماسي أو مقاتل سيفنى جسداً ليخلد روحاً يتمرغ في نهود حور العين .
ليبيا البلد الرخو أمنياً والفارغ إستخباراتياً ، والدولة الفاقدة للدولة ما تزال أكثر البلدان المهددة بأن تكون مسرحاً لعمليات منفردة يقوم بها عناصر التنظيم كي يثبت من خلالها أنه لم ينتهي بعد وأنه (قاعد هنا ) ومازال بمقدروه أن يتحرك برغم كل الأغلال التي تطوق معصميه والسلاسل التي تحاصر قدميه .
في ليبيا هنالك كل العوامل التي تجعل من التنظيم قادراً على الالتحام بنفسه من جديد وأن يشكل حواضن جديدة ، وقواعد جديدة ينقل بها طبيعة المعركة إلى أخرى أقرب إلى حرب العصابات ، وهي استراتيجية يتقنها التنظيم ويتفنن في طبخها وتحضيرها .
ليس خافياً وليس من قبيل التنظير التعريجُ على الفراغ السياسي الذي لم يكن بمقدور أي جسم تشريعي وتنفيذي ملؤهُ ، وأيضاً الفشل في وضع أطر جديدة_ أكثر ديناميكية وواقعية_ لهيكلية الدولة حتى تجابه التحديات وتُحدد أولوياتها وفق الأهم فالمهم ، ليس خافياً أيضاً المعالجات الخاطئة لمسألة من كانوا بالسلطة قبل 2011 وتوابعها من إفراطٍ في الظلم وإعمالٍ لنزعة الانتقام على روح التسامح التي كان مفترضاً ولزاماً أن تعم ، هذا الظلم قد يجعل كثيرين قابلين أن يكونوا جنود خلافة مستقبليين إذا تركوا ليتم استقطباهم ، أو عبثيين غايتهم التخريب لأجل التخريب ،، لا ننسى ولا يجب أن ننسى غياب المشروع التنموي المتكامل سياسيا واقتصاديا واجتماعيا والذي من المفترض أن يستثمر الطاقات المبعثرة في كل مكان والتي هرباً من التهميش ترمي بنفسها في حضن الميليشيات ..
تحدث البغدادي ورمى السهام في جميع الاتجاهات ، ببساطةٍ لأنه يعلم أنه محاصر ، ومن يحاصر يصبح أشد شراسةً وقسوة ، لأن طريق التوبة أو الهرب لم يعد متاحاً ، وهذا ما يجعل المرحلة القادمة صعبةً في ليبيا وتتطلب معاملة مثالية والانتباه إلى أدق التفاصيل والتسريع كذلك في بلورة اتفاق يوحد الأجسام المتشظية المنقسمة على نفسها لأنه ما دام الفراغ قائماً فحتماً لن يقوم بملئه سوى المتطرفون .