الأزمة الاقتصادية بين الخيارات السياسية والاقتصادية
علي الصلح
لقد قام الاقتصاد الليبي بعدة محاولات لتخفيف الأزمة الاقتصادية عقب المفاوضات السياسية التي جرت في العديد من العواصم العربية والعالمية ولكن دون جدوى … بالرغم من مساندة صندوق النقد الدولي لها، والجدير بالذكر فشلت محاولات التصحيح الذاتي في استهداف أهم المؤشرات الاقتصادية وذلك يُعزى إلى عجز ميزان المدفوعات، بسبب إيقاف إعادة تصدير النفط، وعجز الميزانية العامة، واستمرار تفشي ظاهرة الفساد بسبب الانقسام السياسي.
وأصبحت ليبيا مادة يسخر منها العالم وذلك جراء فشلهم في تحقيق أهدافهم رغم توافر الموارد الاقتصادية وموقعها الجغرافي، وانشغال الحكومات بالنفقات، وتكوين الفساد للثروات.
وإن كان هناك شيء واحد علّمتنا إياه الأزمة فهو أن الحكومات ستقترض أكثر فأكثر في كل عام، فبالكاد يمر شهر لا يخلو من إنذار يوجه من قبل المؤسسات الدولية مثل صندوق النقد الدولي أو منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية إلى الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة فيما يخص حال الاقتصاد المحفوف بالمخاطر.
وفي سياق الحديث … فان ما يحدث اليوم، حالة استمرار الفساد ورغبتهُ القائمة على استمرار الانقسام وذلك للأرباح التي يحققها من تهريب العملات الأجنبية والمحلية والسلع وثروات الليبيين … ويُعد هذا الأمر مخالفا للقانون وللأهداف السياسة الاقتصادية، فالاقتصاد الليبي اليوم يدخل دوامة أكثر عنفاً وذلك لأسباب تتعلق باختلال المؤشرات الاقتصادية، نذكر منها الآتي:
يعاني الاقتصاد الليبي من مشاكل عديدة منها ارتفاع معدلات البطالة والتضخم (التضخم الركودي)، وذلك بسبب الحروب والأزمات المتعاقبة التي مرت بها ليبيا وخاصة في الفترة الممتدة بين عام (2014-2020) وإلى حد الآن، وما حصل على هذه المعدلات من زيادة واضحة بشكل كبير وخاصة بعد فترة الانقسام السياسي والاقتصادي، وهذا يؤكد أن هناك خللاً اقتصادياً يؤثر بصورة سلبية على الأداء الاقتصادي الكلي ويمكن ملاحظة هذا الارتفاع في معدل التضخم الركودي من خلال المتابعة في بعض السنوات ففي عام 2011 سجل معدل 30.5 % وأخذ في التزايد إلى أن بلغ معدل التضخم الركودي حده الأقصى (45.6%) وذلك عام 2017 و2018، وهكذا أخذت معدلات التضخم والبطالة بالارتفاع وأصبحت العلاقة بينهما طردية وهذا يدل على وجود مشكلة جديدة في الاقتصاد الليبي وهي التضخم الركودي (Stagflation).
وكذلك يلاحظ أن معدلات النمو في الناتج المحلي الإجمالي أخذت تتراجع وتنخفض بشكل ملحوظ بسبب توقف أغلب موانئ النفط عن الإنتاج والتصدير. وأيضا اتّباع سياسة مالية خاطئة وهي التوسع بالنفقات مقابل التخلي عن التحصيل الضريبي وهذا يؤدي إلى التمويل بالعجز والذي يترتب عليه آثار تضخمية كبيرة. بالإضافة إلى سياسة نقدية فاشلة من خلال زيادة المعروض النقدي الذي له آثار تضخمية أيضا والتي تدل على وجود فجوة دائمة بين المعدل السنوي لنمو عرض النقد والمعدل السنوي للناتج المحلي الإجمالي، مع غياب التوازن المطلوب بين سوق النقد وسوق السلع والخدمات.
كما يعاني الاقتصاد الليبي كغيره من الدول النامية من مشكلة زيادة النفقات العامة بصورة غير مدروسة بحيث أدت إلى تزايد نسب عجز الموازنة كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي إلى أكثر من 3% وذلك منذ عام 2014 وأخذ في التزايد إلى أن وصل أقصاه عام 2016 بنسبة تُقدر بـ 91.35%، بينما تجاوز الدين المحلي حدوده الآمنة عند 295% كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي عام 2017 مما أثر سلباً على وضع الااستدامة المالية.
كان من نتيجة اهتمام خطط التنمية الاقتصادية والاجتماعية السابقة والحالية بالبعد الزمني، والبعد القطاعي دون الاهتمام بالبعد المكاني، والمؤشرات الاقتصادية الكمية، أن ظهرت مشكلة بالإضافة إلى التحديات السابقة على درجة كبيرة من الخطورة، وهي مشكلة الفوارق الإقليمية أو الفوارق بين البلديات، بحيث نجد بعض الأقاليم أو بعض البلديات أكثر تقدماً من الناحية الاقتصادية والاجتماعية عن سائر الأقاليم أو البلديات الأخرى.
ولقد ترتب على وجود هذه الفوارق أن تحولت الأقاليم المتقدمة إلى مناطق جذب تتجه إليها رؤوس الأموال، والأيدي العاملة، نظراً لتوافر الخدمات الرئيسية المختلفة، وارتفاع الأجور، وتوافر فرص العمل، وتوافر الأسواق، وغير ذلك من العوامل التي تساعد على جذب الأنشطة الاقتصادية إلى مناطق تلك البلديات أو الأقاليم، وعدم استغلال مناطق شاسعة في الدولة الليبية تتوافر بها موارد اقتصادية مهمة.
يجتاح الاقتصاد العالمي اليوم أسوأ ركود اقتصادي منذ سنوات “الكساد الكبير”، وأسوأ بكثير من الأزمة المالية العالمية 2008 بسبب “الإغلاق العام الكبير ” الذي تشكّل بسبب انتشار فيروس كورونا الجديد، ومنطقة شمال إفريقيا ليست بمنأى عن هذا الركود وما يُخلّفه من تداعيات في الأجلين القصير والمتوسط.
ومما سبق … يستطيع كل ليبي تحديد إلى من يستمع إليه، فإما سينطفي الفساد ويستقر الاقتصاد أو سيطرحنا أرضاً بالضربة القاضية، توحيد المؤسسات هو الموقف الوطني الوحيد الذي يجب تحقيقهُ، فالمحافظة على الاقتصاد هو شكل موازٍ للحافظ على الوطن ولا ينفك عنهُ مطلقاً.