الانهيار الكبير وسكاكين الزبدة
سالم العوكلي
استيقظت منتصف النهار .. بعد أن صرفت فترة نومي القلقة عبر سلسلة من الكوابيس التي ما فتئت تلاحقني منذ فترة طويلة .. أحياناً أطير دون أن أعرف كيف أنزل ، أو أتسلق جداراً عاليا متشبثاً بأشياء متحركة وأحس أنني أسقط ، أو في داخل قاعة امتحان ولا أعرف إجابة أي سؤال، أو أقود سيارة بسرعة في شارع مظلم ولا أعرف كيف أوقفها ، أو أجد نفسي في دولة أجنبية دون أن يكون معي جواز سفر أو نقود أو لغة، لكن أكثر الكوابيس إزعاجاً هو الذي استيقظت منه الآن .. رأيت أني أمشط لحيتي فيتساقط شعرها كما يتساقط وبر الجيفة على صدري تاركاً مساحة من البرص على وجهي، لكن فضيلة الكوابيس هو الشعور بالراحة التامة عندما أستيقظ لأجد كل شيء في مكانه عكس الألم الذي يولده حلم جميل لتجد أيضاً كل شيء في مكانه ..تلمست لحيتي ونهضت متباطئاً إلى المطبخ .. شربت كوب حليب بارد وأشعلت سيجارتي الأولى ..أحس ببداية صداع وتورم في عيني.. وأنا أفكر في قضاء نهار آخر طويل .. وضعت كوب الحليب البارد على حافة المنضدة مستغرقاً في تدخين بقية اللفافة ومحدقاً في الشرفات الخالية التي تبدو في مثل هذا الوقت كتلفزيونات مطفأة .. أحاول أن أستعيد نكهة لقاء تدبرَ حميميته منذ دقائقه الأولى .. هل يمكن أن تذوب المسافة الجليدية بهذه السرعة ملقية بارتباك العلاقات الإنسانية الطارئة في ألفة مفرطة وفي وقت قياسي؟ ما زال سؤال سائق التاكسي الذي رآها تنتحب على كتفي وهو يجول بنا شوارع الإسكندرية يلاحقني: هو أيه اللي حصل؟، وما زالت عيناها الغارقتان في الدموع تبللان وقتي بمزيد من الانشداه ، استرخيت قليلاً تحت وطأة إحساس بالنشوة التي يشوبها قليل من الإحساس بالعبث حتى أيقظني صوت الهاتف .. ذلك الكائن المعدني الذي فتح شرفة للفوضى بنداء حارق لامرأة كانت في تلك اللحظة رهن السكينة والانتظار .. هذه التقنية التي أتاحت فضاء آخر للصدفة كي توسع احتمالاتها .. بفعله غدت الصدفة ليست أسيرة المكان فقط أو حركة الجسد ، أجتاح أَسْرَ المكان همسُ الأسلاك النحاسية الممتدة كشبكة عنكبوت داخل العالم شارعةً فضاءً آخر لمزيد من الصدف ، وألقت بالعالم في شبكة من العلاقات التي ما كانت لتحدث لولاها ، وبفعلها غدا الهمس في الأذن أحد تجليات العصر المسرف في قهر المسافات .. متماسكاً رفعت السماعة وألصقتها بأذني فانسكب صوتها داخلي كماء بارد : لم أستطع النوم البارحة .. ومن جديد سألتني هو إيه اللي حصل ؟.. كان قدري مواجهة هذا السؤال دون أن اتعب ذهني بمحاولة الإجابة عنه .. تحدثنا في أمور شتى مأخوذين بسحر الصدفة التي حسب ما قالت كان لا بد أن تتدخل بيننا ، لكني حاولت أن أقلص دور الصدفة إلى أبعد حد .. لقد كنت أحس بالملل وفي حاجة لمن أتحدث معه .. اخترت رقما قريباً من الرقم المسجل على الصحيفة ، وبذلت قصارى جهدي كي لا تشتمينني وتقفلي السماعة ويكون كل شيء قد انتهى .. ثمة جهد وتكتيك يجعل للمصادفة دوراً نسبياً .
كأني كنت انتظركَ ،قالت بوهن عذب.. وضاع باقي الكلام حين وقع نظري على الشاشة الصامتة ..
دخان غزير يتصاعد من برجين عاليين وعلى الشريط الأحمر أسفل الشاشة خبر عاجل: طائرات مدنية تقتحم برجي التجارة في نيويورك .. ومع استيعابي لما حدث كنت ضمن الملايين الذين يتابعون مباشرة هجوماً على أمريكا في عقر دارها .. هذه الأمة التي كانت بعيدة عن الدخان وحرائق الحروب رغم وجود أقوى قوة إطفاء فيها .. انتابني شعور هو مزيج من التشفي والألم .. وهو ناتج عن مزيج من حب وكراهية لهذه الضفة التي توزع على العالم المرح والموت في الوقت نفسه .. وبدأت معركة للتو في داخلي ، بين الشاعر الذي يدين العنف بكل أنواعه، ومواطن العالم الثالث الذي يدين الهيمنة وقسوة القوة .. إن الملل الذي غدا يفتك بالبشر لن يدحره إلا حدث بهذا الحجم .. ينهار أحد الأبراج فجأة فيلقي بحمم رماده في شوارع منهاتن وراء أناس يركضون وليس في ذاكرتهم سوى مشاهد السينما التي كان تشبع خيالهم بالفاجعة الرمزية .. متأكدين أن مثل هذا لن يحدث إلا في تقنيات هوليود، وكان المصورون رغم الخوف يبذلون كل إمكاناتهم لاصطياد الصور المعبرة ، عيون تنظر بفزع إلى الجحيم المتهاطل من أعلى، عيون أخرى تترقرق فيها الدموع ، أيادٍ تلتصق بأفواه النساء المتفرجات وكأنهن يقمعن صرخة قوية تليق بهول الواقعة ، الكاميرات الباردة وحدها تتنقل بمتعة فنية أمام عيون تدربت جيداً على اقتناص المآسي والفوز بأفضل اللقطات من وسط الدخان والدموع.. إنهم يعرفون جيداً أن هذا الخطب سينتهي ويكون جزءاً من الذاكرة، وأن صورهم ستحل محل الفاجعة بهالتها الفنية التي تعمل ضمن مبدأ اللاتكرار في عالم يعتقد جازماً أنه يمضي قدماً ، تلك الصور ستكون يوماً ما مادة قاتلة للملل على جدران المعارض، حيث يمر الزائرون عليها بفطنة تستدعيها واجبات التلقي والتفاعل ، وحيث ستكون لحظات احتضار أشهر برجين فوق الأرض وثيقةً لتعالي العقل الإنساني وانهياره في الوقت نفسه. كل هذه الأفكار المتدافعة تهاطلت في زمن لا يتجاوز ثوانيَ معدودة، وبصوت دبق ومتردد قاطعتُ دفق حديثها الهامس الذي لم أسمع منه شيئاً : هل شاهدتِ ما يحدث في أميركا ؟. نعم ومنذ بداية بثه. قالت ذلك بهدوء وكأنني أسألها عن مباراة ملاكمة أو في أسوأ الأحوال عن زلزال ، ولماذا لم تخبريني؟. شاهدتُ الحدث في بدايته ثم أقفلت التلفاز مفضلة أن أقرأ كتابك بعيداً عن رائحة الحريق .. أنني تحت نشوة لا أحب أن يعكرها أي شيء..
هل هي المصادفة أيضاً ؟.. هل كان من المفترض أن أعرفها قبل هذا الحدث بيوم؟ .. وهل اللحية التي منعتني من حضور عقد قران في كنيسة قبطية هي التي تزور الآن بدخانها أعلى بناء في أقوى دولة على مر التاريخ؟. ثمة ما يشير إلى ذلك في التحاليل الأولى للأحداث العاصفة، وثمة غموض مازال يلف العالم حول ما حدث. تحليلات تبحث عن المنطق لكن الضخ الإعلامي الكبير سيجعل من كل وهم حقيقة ومن كل حدس بشري تاريخاً فيما بعد.. التاريخ سرد يتراكم في الذاكرة الاجتماعية يتظاهر بمنطق الصراع المخطط له لكن للصدفة أيضاً يداً في كتابته. هل كان كل ذلك صدفة ؟ وهل كون في تلك اللحظة ملايين العيون فوق الأرض مسلطة على المشهد نفسه صدفة أيضاً ؟ فقط ما أفكر به الآن كيف استطاعت اللحى المهملة بمعرفتها الغيبية المحدودة أن تخترق نظاماً أمنياً عالميا بسكاكين قطع الزبدة، وهو النظام المصمم لمواجهة ترسانات الشرق النووية والجاسوسية؟ سؤال تحاول أن تجيب عنه صديقتي التي كانت تؤكد أنها رغم إحساسها بالوحدة حافظت على حصانتها ضد ترسانات الرجال المغوين بالمال والنفوذ والمناصب ، لكن الشعر دائماً هو ما يخترق كل تحصيناتها هذا الكائن الناعم الهادئ مثل سكاكين الزبدة.