«الاقتلاع» و«الاجتثاث» سودانياً وعراقياً
فـــؤاد مطـــر
اعتدنا كصحافيين عايشوا ميدانياً أو متابعة من خلال عملنا في الصحف معظم الانقلابات العسكرية في الدول العربية، أن نركِّز بداية على صانعي الانقلاب وفي الوقت نفسه نُدرج في الاهتمامات ما يحدُث في دول العالم الثالث، كوننا أعضاء في هذا الجسم العليل من انقلابات بعضها متقن وعلى مستوى وبعضها الآخر فولكلوري. وكنا نتوقف بصورة خاصة على البلاغ رقم واحد الذي يصدر عن صانع الانقلاب أو باسم المجموعة صانعي الانقلاب.
وعندما حدثت الخطوة الأُولى على طريق الانتفاضة الشعبية المبهرة في السودان يوم 11 أبريل (نيسان) 2019 متمثلة بإطلالة تلفزيونية غير متوقعة لوزير الدفاع أحمد عوض بن عوف وإلقاء بيان يعلن كف يد الرئيس عمر البشير، وتعليق الدستور، وكذلك حل الحكومات، وفرْض حظْر التجول، كان من الطبيعي التوقف عند البيان غير المسبوقة مفرداته ووضْع خطوط تحت بعض الكلمات التي تفسر ما استعصى تفسيره لهذه النقلة المفاجئة من جانب قائد عسكري بشيري الهوى إزاء رئيسه الذي لم تمضِ سوى 48 يوماً على تعيينه نائباً أول لرئيس الجمهورية مع احتفاظه بمنصب وزير الدفاع.
كان البيان المفترَض أنه البلاغ رقم واحد، على نحو المألوف حدوثه منذ الانقلاب العسكري الأول في العالم العربي، خالياً من الموقف السياسي، بمعنى فقرات الإشارة إلى التضامن العربي والقضية الفلسطينية، والاكتفاء بالالتزام بالعلاقات الطيِّبة مع دول الجوار ودول العالم عموماً، وكذلك الحرص على علاقات دولية متوازنة والالتزام بالمعاهدات والاتفاقيات والمواثيق الدولية والإقليمية إلى جانب المحلية. وجاء البيان يحمل بشرى إنهاء نظام إنما من دون تسمية البشير والاكتفاء بعبارة «رأس النظام». كما برَّأ البيان «اللجنة الأمنية العليا» من مسؤولية ما حدث، وهذا واضح في تمهيد البيان للقرارات التي تم اتخاذها، حيث فيه تلميح إلى احتمال حدوث انقسام في الجيش… وإن كان البيان استعمل عبارة «بوادر إحداث شروخ في مؤسسة عريقة».
ومثلما أن البيان لم يسمِّ البشير بالاسم فإنه كان على درجة من الدبلوماسية في التعبير، فلم يستعمل كلمة «إسقاط» النظام وإنما الاكتفاء بكلمة «اقتلاع» وهي جديدة على القاموس الانقلابي العربي. وأما مسألة «التحفظ على رأسه بعد اعتقاله في مكان آمن» (وهنا مرة أُخرى يعتمد نحوياً المعلوم المجهول) فإنها ليست مستحدَثة، ذلك أنه في الانقلاب العسكري الأول في العالم العربي الذي جرى في الجمهورية السورية والذي قام به القائد العام للجيش حسني الزعيم (رتبة عسكرية) رائد الانقلابات العسكرية ضد أهل السياسة والأحزاب، أُودِع رئيس الجمهورية شكري القوتلي، ورئيس الحكومة ووزير الخارجية والدفاع خالد العظم، ووزير الداخلية والمعارف محسن البرازي، في المستشفى العسكري في المزة، لكل منهم غرفة خاصة به. وعندما طلب كل من القوتلي والعظم إحضار بعض الكتب الأدبية والأدوية فإنه تم تزويدهما بها.
مناسبة هذا الاستحضار للانقلاب العسكري الأول، أن ثمة الكثير من أوْجه الشبه في المضامين بينه وبين أحدث ما حصل في السودان بعد سبعين سنة وكلاهما في أيام ربيعية (انقلاب الزعيم على الحكم المدني آخر شهر مارس (آذار) 1949 والانقلاب الخجول على البشير يوم 11 أبريل 2019).
تطول المقارنة من حيث الأسباب وظروف الخطوة التي أوجبت الانقلاب الودّي قبْل أن يتطور إلى انقلاب يتسم بالجدية في السودان، لكن ما يعنيني كمتابع عريق للشأن السوداني وانقلاباته وتقلبات عهوده هو هذا التأدب في التعامل بالحسنى من جانب رموز الانقلاب مع مَن كان حاكماً بأمر شريحة عريضة من السودانيين أدخلت حركة «الإخوان المسلمين» «إقنيم» ثالث في المجتمع السوداني المشهود تديُّنه حتى من جانب شيوعيي الوطن في زمن ازدهار الحركة الماركسية المركز (الاتحاد السوفياتي) والأفرع في كثير من دول أوروبا ودول العالم الثالث. فالسودان على مر عهوده حتى الثمانينات كان ذائع الصيت بأنه طائر أسمر اللون بجناحيْه الأنصاري والختمي وإلى درجة أن «الأنصار» كما «الختمية» باتتا حركتي الإسلام السياسي في السودان لا ينازعهما هذا «الإقطاع الدياسي» بمعنى الديني – السياسي، طيف آخر، ثم دخل على الخط بقوة وحيوية فكرية متمكنة دينياً وسياسياً الدكتور حسن الترابي ممسكاً بورقة على درجة من الأهمية تتمثل في أنه زوج ابنة الإمام عبد الرحمن المهدي، بما يعني أن كبير الأنصاريين ومُنظِّرهم والمعقودة عليه آمال إنعاش الزعامة الروحية والسياسية والنضالية للجد عبد الرحمن ضد الإنجليز الصادق المهدي بات أمام مَن يحاول اقتسام الشأن الأنصاري وإن كان ذلك بنسبة بسيطة في استطاعة الترابي تنميتها وابتكار صيغ وأساليب من أجْل ذلك، معتمداً على حذاقة تكتيكاته وعُمْق ثقافته. ولقد حقق الترابي ما يصبو إليه، ذلك أنه استطاع من خلال حركة «الإخوان المسلمين» خلْق قاعدة له وتحقيق اختراقيْن داخل المؤسسة العسكرية في عهد الرئيس الأسبق جعفر نميري أثمرت ضباطاً إسلامويين حققوا بقيادة عمر حسن البشير انقلاباً على حُكْم أهل السياسة، مستغلين في ذلك المشهد الماثل في مخيلتهم عما جرى لزملاء لهم من غزوة جاءت من ليبيا وقتلت أعداداً كانوا نياماً في معسكرهم. وعندما استعذب البشير حلاوة السلطة المطلقة أرسل الشيخ الترابي إلى احتجاز في إحدى دور الضيافة ثم لاحقاً إلى الباستيل السوداني، سِجْن «كوبر».
هنا أيضاً تطول القضية والظروف حولها وما أنتجتْه من مشاعر ومحاذير، وأعود إلى عبارة «اقتلاع ذلك النظام والتحفظ على رأسه بعد اعتقاله في مكان آمن» التي أوردها وزير الدفاع باسم اللجنة الأمنية العليا عوض بن عوف.
كان لا بد من فتْح صفحات قاموسية لتفسير كلمة «اقتلاع». فما هو سائد أن كلمة قلع تقال عند خلْع أضراس أو باب ضاع مفتاح قِفْله، وأحياناً يكون استعمالها شعبياً مثل القول إن فلاناً خلع فلاناً بلكمة على وجهه. ثم يفيدنا القاموس أن للكلمة أكثر من تفسير أحدها بمعنى إزالة القائد عن رتبته. وهذا ما قصده البيان الذي قضى بنقل مكانة البشير من كرسي الرئاسة إلى الجلوس على كرسي عادي في «منزل آمن». أما بعض سائر معاني كلمة الخلع فهي «خلع الرجل زوجته» و«خلعت الزوجة زوجها». كما أن لفظة «الخلاع» المشتقة من خلع تعني (قاموسياً) شبه خبل يصيب الإنسان، وتعني كلمة الخليع (جمع خُلعاء) المعزول من مقامه. أما الخولع فإنها (قاموسياً) تعني الأحمق. وأما المخلَّع من الرجال فإنه (قاموسياً) الضعيف الرخو. كما أن معنى الخليع جمْع خُلعاء تعني (قاموسياً) الخبيث. وللكلمة معنى إيجابي، إنما (قاموسياً) تتعلق بالشجر وليس بالبشر وهي أخلع الشجر بمعنى أنبت ورقاً جديداً. وهذا يُجيز القول حول ما كان يدور في خاطر بن عوف كبادرة حُسْن تعبير وتوصيف تجاه رفيقه البشير. والأرجح أن بلغاء ضادّيين سيبويهيين في الحراك الشعبي رأوا الخلع من جانب بن عوف بهذا المعنى فثابروا وصبروا إلى أن كانت «النقلة البرهانية» التي لم تكتمل فصولاً.
ويبقى القول إن الكلمتيْن التوأميْن (الاجتثاث عراقياً والخلع سودانياً) مرشحتان في حال كثرة الحالات الموجبة وإصدار البيانات في شأنهما إلى استمرار تداولهما. ففي العراق لم يُحسم أمر الخشية من عودة «البعث» إلى الساحة السياسية في رداء أو آخر. وفي السودان لم تُحسم الأمور وبالذات ما يتعلق بالشراكة المدنية – العسكرية، فضلاً عن الخشية من سيناريوهات إخوانية تستوجب التنبه إليها. وهكذا فحتى إشعار آخر قد ينتهي الأمر تداولاً لكلمتي «الاجتثاث» و«الخلع» إلى اندماجهما في كلمة واحدة «الديراسينية» كما «الديمقراطية» و«البيروقراطية» و«الديكتاتورية»… وهي كلمات أجنبية استُعربت أو استُشرقت. والباب مفتوح أمام «الديراسينية»، كون التحديد القاموسي الأجنبي الذي في مقالتي هذه أستند إليه في كلمة «اجتثاث» العراقية النشأة والابتكار وكلمة «خلْع» السودانية الوليدة النشأة، هو Deracinement والفعل Deraciner (بالفرنسية) وكذلك بالإنجليزية Deracinate مع اختلاف اللفظ.
… ولهذا الغوص في المشهد السوداني بقية إبحار.