الاستقالة من القصيدة وشعرنة الحياة
المهدي التمامي
الشعر رحمة..
لا أدري كيف آمنت بهذا المعتقد؟!
ربما لأنه تجاوز لكل المرجعيات الشعرية الضاغطة..إنه الشعر الذي يأتي من الحب.. الحب الذي ينبثق من الجمال.. ليس (الجمال المتعب) الذي أجهد ضوء (درويش).. بل الجمال في جوهره الذي يقاس باللازمن المتوجهة إليه (الأسماء كلها) في صيرورة غبارها الخصب.. لتهفو مقولة (كيتس) الخالدة، ويصير الجمال متعة إلى الأبد..
قد تبدو القصيدة انتصاراً..
لكنه الانتصار الذي يحمل في داخله تشظيه لم يكن سوى احتيالاً لم يبهج (كابلينغ) المتنقل بقلق فارط بين ظلال (سد هارتا).. مقتفياً عواء ذئب (هيسه).. ففي أعماق ذلك الانتصار تكمن هزيمة داخلية ساحقة، وشعور عميق بالفراغ..
أيتها الآلهة الرابضة عند (الحافة المتألقة).. الذي يذكرك فتى يقال له (نيتشة).. عيناه تمقتان الحشد المجتر.. وفي الأعالى يعاود نشيده الأبدي.. ما أقسى سهولة الإيمان، ومعانقة الليل الأبدي المغمور بالموتى…
لا خلاص لكم إلا مع (زوربا).. وهو يربت فوق شرود الحروف: أيها الشعراء عمدوا شياطينكم كي تعيدوا الطمأنينة إلى أنفسكم… أما في أودية (الفالاج) فيصيح (باشلار) بملء عناصر السحر (كل شيء للشاعر ومن أجله)، لأنه (لهب كلي وحيد).. ليرجع الصدى من (الأنديز) البعيدة عبر (نيرودا) في اعترافه الكامل بالعيش (لو استطعت لأكلت الأرض، وشريت البحر).. إنها نبتة الشعر التي تحتاج إلى الأرض والسماء كي تزهر…
ما أقسى أن تكون شاعراً.. أن تكون حياتك منذورة لهذا البناء الباهر للكلام.. لهذا التفاعل اللا نهائي مع الآخرين الذين يمثلون العالم..
كان، وما يزال، الشعر نوعاً من الثراء الدائم… إنه يمنحنا إحساساً نادراً.. إحساس يشحن الوجود بأجمل معانيه.. فالسعادة الفردية مستحيلة إنسانياً خارج السعادة الجماعية كما يقول (تودوروف).. فأنا لم أؤمن يوماً، مثله، بأن الشعر مجرد متعة تقتصر على نخبة بعينها.. بل هو مساحة من الاستجابة لأن يتجسد كل إنسان وفق شعوره العظيم بأنه موجود بقدر…
الشعر ليس فتقاً.. بل هو رتق للشقوق التي تتحسسها (اليد الثالثة) لكل ملكة أودت بممتلكها إلى مدار الرعب.. الشاعر هناك، مع (رامبو) يصطاد القضايا الكبرى.. ويتدحرج مع (العابر الهائل) في الانتصار.. ليروضان الأشياء معاً كما لو أنها أحصنة..
الشاعر لا يزعجه النصر المستبد للذين يلتهمون (سموم المجد).. فبينما وهم في تطويبهم الماكر، يظل يسعى إلى السعادة، يعيشها، ويبشر بها… أما الزائفون العظماء فلا جذوة لهم لينفخها الظفر..
الشعر الخالص أن لا نلعن الحياة.. لأننا خلقنا من أجل إعادة العاشقين الأولين إلى جنة عدن.. حتى إن كنا لم نزل في قطع من الليل مظلمة.. لكننا حتماً عند الصباح سوف ندخل مع رامبو وفيرلين وبقية الشعراء الملعونين إلى المدينة الباهرة…
عندما كنت صغيراً.. كنت مولعاً بغناء (أمي) المتمثل في شذرات من الشعر الخالص تسمى (الحجايج).. كنت منذهلاً من قدرتها الفائقة على السخاء الشعري بالكلام الضئيل.. كنت أتساءل، يا إلهي! كيف تتحول الكلمات العادية على يديها إلى شيء سحري يبعث في النفس بهحة مطلقة؟!
بعد ذلك نعست مثل (بورخيس) في دهشة.. لم أنتبه إلى نفسي إلا وهي تقبل الضوء.. ومثل أي شاعر جديد، لم أفكر في ما أكتب، وإنما اكتفيت بنقل أحلام ذلك النعاس اليقظ…
كبرنا وامتدت أعمارنا إلى منعطفها الأخير.. لا شيء في مكانه المعهود.. لأن الوجود يرتجف عندما يخفق جناح الخيال.. هذه الصيرورة عذبت الشعراء كلهم.. لأنها (الأكثر مأساوية) وفوق كل ذلك (الأكثر حيوية من جميع الصيرورات) ومن هنا أيضاً تأتي معجزة الشعر في كونه (يقول الأشياء مداورة).. وهذا ما يعجز عنه الكلام العادي.. وهذا كله يقودنا في لحظة ما، مع (باشلار) إلى استحالة أن يكون الخيال نشاطاً بشرياً خالصاً.. وأننا لن نتجاوز الدهشة المتكررة، نحو دهشة مستديمة للوجود.. إلا بالاسقالة من القصيدة.. ففوق شفة اللغة ينبض الشعر مثل قلب طفل صغير.
_________________
* بمناسبة اليوم العالمي للشعر