مقالات مختارة
الارتباط الصعب… والانفصال الأصعب
نشر في: 21/02/2020 - 20:50
نبيل عمرو
لو أجرت جهة مهنية محايدة استطلاع رأي بين فلسطينيّي «الحكم الذاتي» في الضفة وغزة، حول سؤال… هل ترغب في الانفصال التام عن إسرائيل؟ فستكون النتيجة أكثر من 90 في المائة: «نعم». وفي ذات الاستطلاع، لو عرض سؤال ثانٍ هل ترى أن الانفصال ممكن؟ لأجابت النسبة نفسها بـ«لا».
بين الـ«نعم» الأولى التي تعكس رغبة وطنية، والـ«لا» الثانية التي تنتجها حسابات الواقع، يدور جدل فلسطيني لا يتوقف ولا يهدأ حول طبيعة العلاقات الراهنة مع إسرائيل، ومن ضمن الجدل… هل الانفصال الذي يطرح كبرنامج حكومي يمكن تنفيذه؟ ويتجه الجدل إلى المزايا والأثمان، وغالباً ما تكون الخلاصات على النحو التالي… المزايا كثيرة ومهمة في سياق التوق الشعبي لبلوغ الاستقلال الذي هو هدف لم يتم المساس به، رغم كل ما حدث ويحدث من انتكاسات موضوعية وتراجعات على مستوى المسيرة الوطنية.
أما الأثمان التي يتعين دفعها جراء الانفصال فهي فادحة، كونها تُدفع بفعل ردود الفعل الانتقامية من قبل إسرائيل، التي منذ سيطرة اليمين على حكوماتها المتعاقبة وضعت الاتفاقات المبرمة مع الفلسطينيين في الأرشيف حتى لو كانت هذه الاتفاقات مجحفة مثل اتفاق باريس، لتعتمد سياسة تشكيل العلاقة مع الفلسطينيين بمنطق الحاكم المقتدر، والمحكوم محدود القدرة، وفي عهد نتنياهو – شارون، الذي هو أطول عهد حكومي في تاريخ إسرائيل، عادت العلاقات الفلسطينية – الإسرائيلية إلى ما هو أكثر سوءاً مما كانت عليه في الزمن الذي سبق «أوسلو».
ومنذ تطورت الأمور سلباً لتصل إلى ما يمكن وصفه بحضيض «صفقة القرن»، وصل التدهور المتسارع للعلاقة بين الطرفين إلى حد استحالة وقفه.
قبل سنوات كان الحديث والجهد ينصبان على كيفية إنقاذ عملية السلام المهددة، أما الآن فالحديث يجري عن تصفية نهائية للقضية الفلسطينية، ومن قبيل إبقاء المواقف القديمة على قيد الحياة يظهر مصطلح حل الدولتين كضريبة كلامية دولية مشفوعاً باعتراف بأن هذا الحل يبتعد في الواقع، ذلك خشية القول إنه يستحيل.
في ظل هذا الوضع السياسي الذي تنغلق فيه الأبواب المفضية إلى حل الدولتين، وفق المفهوم الحقيقي للدولة المفترض إقامتها، أي الفلسطينية، طرحت حكومة السلطة كبرنامج عمل، الانفصال عن الاحتلال، وطرحت توجهات طموحة خصوصاً على الصعيد الاقتصادي، واستخدمت الهوامش الضيقة المتاحة أمامها لجعل الانفصال قابلاً ولو جزئياً للتنفيذ، إذ عملت على مد جسور اقتصادية مع الجوار العربي لعل هذا الجوار يساعد على تخفيف الاعتماد على إسرائيل.
وأعلن رئيس الحكومة أكثر من مرة عن خطط بديلة لإلغاء التداول بالشيكل حتى لو تم الاضطرار للجوء إلى العملة الافتراضية، واتخذت قرارات بوقف استيراد السلع من إسرائيل، وبقراءة رقمية وفق ميزان الربح والخسارة تبدو النتائج ملتبسة، فيتواصل الجدل الشعبي حول هذا الأمر تحت تأثير عوامل يقلق منها الفلسطينيون على مصالحهم الحياتية، وأهم عامل مؤثر في هذا المجال هو القدرة الإسرائيلية على الانتقام، والتي إنْ كانت فيما مضى تمارس بقدر من التحفظ إلا أنها في زمن «صفقة القرن» والصراع الحاد على السلطة داخل إسرائيل أضحت سياسة رئيسية لدى القوى الأساسية المرشحة لتشكيل الحكومة الإسرائيلية، ولكي يتفوق قطب على الآخر فلا مناص من أن يغرف من الوعاء الفلسطيني الذي تناقص كثيراً في هذه الأيام، وحسبنا أن نختصر وللدلالة فقط موقف المتنافسين الأوفر حظاً في تشكيل الحكومة القادمة، من غزة، فقطب يعد باقتلاع الخطر من جذوره بعملية تدميرية واسعة، والقطب المنافس يعد بإعادة غزة إلى العصر الحجري، وأناس يفكرون بهذه الطريقة جديرون ببعث القلق العميق عند الفلسطينيين، سواء ساروا باتجاه محاولة الانفصال أم توقفوا عن هذا الأمر لأي سبب موضوعي وليس بالضرورة سياسياً.
لقد ورثت الحكومة الفلسطينية صاحبة محاولة الانفصال معوقات موضوعية جعلت محاولتها المشروعة مثيرة للقلق من حيث رد الفعل الإسرائيلي عليها، فهذه الحكومة التي وعدت بالانفصال ورثت انفصال غزة عن الضفة وانفصال المناطق «أ» عن «ب» وانفصال الاثنتين عن الثالثة «ج» المهددة بالضم النهائي لإسرائيل، وورثت معابر مسيطر عليها بالمطلق من قبل إسرائيل، كما ورثت تداخلاً اقتصادياً شاملاً مع إسرائيل، ليس فقط بفعل الاتفاقات والتفاهمات، بل بفعل الأمر الواقع الذي جعل «حماس» (المجاهدة) في غزة تسعى لزيادة تصاريح العمل في إسرائيل وتصاريح مماثلة لزيادة عدد رجال الأعمال الذين يتاجرون مع إسرائيل، ومثل هذا وربما أوسع نطاقاً يجري في الضفة، وهذا وحده يتعارض موضوعياً مع فكرة الانفصال التام.
الفلسطينيون في مناطق الحكم الذاتي الضفة وغزة منفصلون سياسياً وبالمطلق عن إسرائيل، وهذا التزام شعبي وقيادي وطني بامتياز، ويزداد الانفصال على هذا المستوى عمقاً واتساعاً في زمن «صفقة القرن»، إلا أن الفلسطينيين ليسوا منفصلين في أمر الاقتصاد، فما ورثوه من علاقات شديدة التداخل على هذا الصعيد منذ اليوم التالي لاحتلال يونيو (حزيران) 1967 وإلى مرحلة التسوية التاريخية المنهارة ثم مرحلة «صفقة القرن»، يجعل مسألة الانفصال ذات مصداقية في سياق خطط علمية ومهنية تراعي مصالح الناس من كل الفئات، ذلك أن التداخل الذي فرضته الحياة على مدى أكثر من نصف قرن وبغير إرادة الفلسطينيين، يحتاج إلى جهد أكبر بكثير من رفع شعارات كبرامج؛ جهد يعطي مردوداً إيجابياً ملموساً، لا يوفر لصانع القرار على أي مستوى فقط رضاً شعبياً، وإنما دعماً والتزاماً وعملاً.
أخيراً… أُورد حكاية حدثت في الأيام الأولى لإنتاج حكومة الدكتور محمد أشتية، بطلها صديقي المغفور له أحمد عبد الرحمن، كان ذلك في حفل أقيم لإحياء ذكرى الشهيد أبو جهاد، كان رئيس الحكومة الجديد حاضراً، قال له عبد الرحمن «أنصحك يا دكتور بالإقلال من الوعود والإكثار من العمل».
يبدو أن نصيحة أحمد عبد الرحمن ماتت معه!
بين الـ«نعم» الأولى التي تعكس رغبة وطنية، والـ«لا» الثانية التي تنتجها حسابات الواقع، يدور جدل فلسطيني لا يتوقف ولا يهدأ حول طبيعة العلاقات الراهنة مع إسرائيل، ومن ضمن الجدل… هل الانفصال الذي يطرح كبرنامج حكومي يمكن تنفيذه؟ ويتجه الجدل إلى المزايا والأثمان، وغالباً ما تكون الخلاصات على النحو التالي… المزايا كثيرة ومهمة في سياق التوق الشعبي لبلوغ الاستقلال الذي هو هدف لم يتم المساس به، رغم كل ما حدث ويحدث من انتكاسات موضوعية وتراجعات على مستوى المسيرة الوطنية.
أما الأثمان التي يتعين دفعها جراء الانفصال فهي فادحة، كونها تُدفع بفعل ردود الفعل الانتقامية من قبل إسرائيل، التي منذ سيطرة اليمين على حكوماتها المتعاقبة وضعت الاتفاقات المبرمة مع الفلسطينيين في الأرشيف حتى لو كانت هذه الاتفاقات مجحفة مثل اتفاق باريس، لتعتمد سياسة تشكيل العلاقة مع الفلسطينيين بمنطق الحاكم المقتدر، والمحكوم محدود القدرة، وفي عهد نتنياهو – شارون، الذي هو أطول عهد حكومي في تاريخ إسرائيل، عادت العلاقات الفلسطينية – الإسرائيلية إلى ما هو أكثر سوءاً مما كانت عليه في الزمن الذي سبق «أوسلو».
ومنذ تطورت الأمور سلباً لتصل إلى ما يمكن وصفه بحضيض «صفقة القرن»، وصل التدهور المتسارع للعلاقة بين الطرفين إلى حد استحالة وقفه.
قبل سنوات كان الحديث والجهد ينصبان على كيفية إنقاذ عملية السلام المهددة، أما الآن فالحديث يجري عن تصفية نهائية للقضية الفلسطينية، ومن قبيل إبقاء المواقف القديمة على قيد الحياة يظهر مصطلح حل الدولتين كضريبة كلامية دولية مشفوعاً باعتراف بأن هذا الحل يبتعد في الواقع، ذلك خشية القول إنه يستحيل.
في ظل هذا الوضع السياسي الذي تنغلق فيه الأبواب المفضية إلى حل الدولتين، وفق المفهوم الحقيقي للدولة المفترض إقامتها، أي الفلسطينية، طرحت حكومة السلطة كبرنامج عمل، الانفصال عن الاحتلال، وطرحت توجهات طموحة خصوصاً على الصعيد الاقتصادي، واستخدمت الهوامش الضيقة المتاحة أمامها لجعل الانفصال قابلاً ولو جزئياً للتنفيذ، إذ عملت على مد جسور اقتصادية مع الجوار العربي لعل هذا الجوار يساعد على تخفيف الاعتماد على إسرائيل.
وأعلن رئيس الحكومة أكثر من مرة عن خطط بديلة لإلغاء التداول بالشيكل حتى لو تم الاضطرار للجوء إلى العملة الافتراضية، واتخذت قرارات بوقف استيراد السلع من إسرائيل، وبقراءة رقمية وفق ميزان الربح والخسارة تبدو النتائج ملتبسة، فيتواصل الجدل الشعبي حول هذا الأمر تحت تأثير عوامل يقلق منها الفلسطينيون على مصالحهم الحياتية، وأهم عامل مؤثر في هذا المجال هو القدرة الإسرائيلية على الانتقام، والتي إنْ كانت فيما مضى تمارس بقدر من التحفظ إلا أنها في زمن «صفقة القرن» والصراع الحاد على السلطة داخل إسرائيل أضحت سياسة رئيسية لدى القوى الأساسية المرشحة لتشكيل الحكومة الإسرائيلية، ولكي يتفوق قطب على الآخر فلا مناص من أن يغرف من الوعاء الفلسطيني الذي تناقص كثيراً في هذه الأيام، وحسبنا أن نختصر وللدلالة فقط موقف المتنافسين الأوفر حظاً في تشكيل الحكومة القادمة، من غزة، فقطب يعد باقتلاع الخطر من جذوره بعملية تدميرية واسعة، والقطب المنافس يعد بإعادة غزة إلى العصر الحجري، وأناس يفكرون بهذه الطريقة جديرون ببعث القلق العميق عند الفلسطينيين، سواء ساروا باتجاه محاولة الانفصال أم توقفوا عن هذا الأمر لأي سبب موضوعي وليس بالضرورة سياسياً.
لقد ورثت الحكومة الفلسطينية صاحبة محاولة الانفصال معوقات موضوعية جعلت محاولتها المشروعة مثيرة للقلق من حيث رد الفعل الإسرائيلي عليها، فهذه الحكومة التي وعدت بالانفصال ورثت انفصال غزة عن الضفة وانفصال المناطق «أ» عن «ب» وانفصال الاثنتين عن الثالثة «ج» المهددة بالضم النهائي لإسرائيل، وورثت معابر مسيطر عليها بالمطلق من قبل إسرائيل، كما ورثت تداخلاً اقتصادياً شاملاً مع إسرائيل، ليس فقط بفعل الاتفاقات والتفاهمات، بل بفعل الأمر الواقع الذي جعل «حماس» (المجاهدة) في غزة تسعى لزيادة تصاريح العمل في إسرائيل وتصاريح مماثلة لزيادة عدد رجال الأعمال الذين يتاجرون مع إسرائيل، ومثل هذا وربما أوسع نطاقاً يجري في الضفة، وهذا وحده يتعارض موضوعياً مع فكرة الانفصال التام.
الفلسطينيون في مناطق الحكم الذاتي الضفة وغزة منفصلون سياسياً وبالمطلق عن إسرائيل، وهذا التزام شعبي وقيادي وطني بامتياز، ويزداد الانفصال على هذا المستوى عمقاً واتساعاً في زمن «صفقة القرن»، إلا أن الفلسطينيين ليسوا منفصلين في أمر الاقتصاد، فما ورثوه من علاقات شديدة التداخل على هذا الصعيد منذ اليوم التالي لاحتلال يونيو (حزيران) 1967 وإلى مرحلة التسوية التاريخية المنهارة ثم مرحلة «صفقة القرن»، يجعل مسألة الانفصال ذات مصداقية في سياق خطط علمية ومهنية تراعي مصالح الناس من كل الفئات، ذلك أن التداخل الذي فرضته الحياة على مدى أكثر من نصف قرن وبغير إرادة الفلسطينيين، يحتاج إلى جهد أكبر بكثير من رفع شعارات كبرامج؛ جهد يعطي مردوداً إيجابياً ملموساً، لا يوفر لصانع القرار على أي مستوى فقط رضاً شعبياً، وإنما دعماً والتزاماً وعملاً.
أخيراً… أُورد حكاية حدثت في الأيام الأولى لإنتاج حكومة الدكتور محمد أشتية، بطلها صديقي المغفور له أحمد عبد الرحمن، كان ذلك في حفل أقيم لإحياء ذكرى الشهيد أبو جهاد، كان رئيس الحكومة الجديد حاضراً، قال له عبد الرحمن «أنصحك يا دكتور بالإقلال من الوعود والإكثار من العمل».
يبدو أن نصيحة أحمد عبد الرحمن ماتت معه!