الاتفاقيات الحاملة لجرثومة الانقسام
سالم العوكلي
شاهدنا جميعا غليان الشارع التونسي بسبب اتصالات رئيس مجلس النواب الغنوشي بتركيا، لم يوقع اتفاقات أو معاهدات، لكن مجرد هذه الاتصالات التي تخرج عن اختصاصه، وتخرج عن أهداف ثورة الياسمين كانت تستفز الشارع المخلص لهذه الأهداف، والمثقفين والحقوقيين خصوصا . فما السبب ؟
أولا لأن الغنوشي في اتصالاته لا يمثل السلطة التشريعية التي يرأس مجلسها النيابي بل يمثل حزبه، وهو يستغل منصبه لتقوية نفوذ هذا الحزب بدبلوماسية خارجية هي من اختصاص الرئيس فقط (الذي في الواقع لا يتمتع بصلاحيات دستورية كثيرة) ، ومن جانب آخر أن هذه الاتصالات تأتي في سياق أيديولوجيا تتعارض مع روح الدولة التونسية وطبيعة مؤسساتها وقوانينها وما أنجزته من تقدم ملحوظ في حقوق المرأة خصوصا منذ حكم الحبيب بورقيبة .
اعترض بعض التونسيين من منطلق الاختصاص ، والبعض من منطلق تدخل تركيا في ليبيا ودورها المهدد للاستقرار، خصوصا حين تحدث أردوجان عن حقوق تاريخية في الشاطئ الليبي مثلما تحدث قبله موسيليني عن ليبيا كشاطئ رابع لإيطاليا.
وحين أقارن بين أردوجان وموسيليني لا أبالغ أو ابتعد عن المقصد، فجزء كبير من التونسيين الذين عارضوا الغنوشي في اتصالاته المشبوهة مع أردوجان كانوا ينظرون إلى هذا الحليف لحزب النهضة كفاشي يتناغم مع فاشية الإسلام السياسي في تونس الذي مازال يهدد مسار الدولة الديمقراطي ومنجزها الحضاري ومزاجها الفرانكفوني المتوسطي.
بالنسبة للنخبة التونسية التي بدأ يشكل لها ملف الحقوق الإنسانية ركيرة، أردوجان ونظامه يسجن عشرات الآلاف من الصحفيين والمثقفين والأكاديميين والعسكريين والتكنوقراط في عمليته الواسعة لتصفية الدولة العلمانية العميقة بذريعة المحاولة الانقلابية الملتبسة.
وبالنسبة لهم، تونس المتمسكة بأهداف ثورتها وبروح التغيير تتمنى أن تكون تحالفاتها مع دول وسياسات تنعش هذه القيم الديمقراطية والحقوقية التي من أجلها قامت ثورة الياسمين. وهي لا تريد استبدال نظام بوليسي قمعي بنظام إسلاموي أشد قمعا ترعاه الأستانة في تركيا لأن الأمر مخيف ومهدد لأحلام التونسيين بدولتهم الديمقراطية المنشودة التي قطعوا فيها شوطا مهما وجعلوها مختلفة عن كل ظاهرة الربيع العربي وقدوة لأي تغيير مقبل .
من هذا المنطلق يجب أن ننظر إلى الاتفاقات التي قامت بها حكومة إقليم أو أقل من إقليم في ليبيا مع أردوجان (ولن أقول مع تركيا) لأن من الواضح أن ما وراء هذه الاتفاقات تكمن أيديولوجيا زائد مصالح في اتجاه واحد، ويكمن حنين عثماني لهذا الجزء من العالم الذي حكموه أربعة قرون جعلوها مسافة التخلف الزمنية بيننا وبين العالم الحديث.
تركيا تبعث إمدادت كبيرة من السلاح إلى جماعات خارجة عن القانون في الغرب الليبي، ومشكلتنا الأساسية في ليبيا هي السلاح المنتشر وصعوبة نزع هذا السلاح الذي لا يمكن أن تقوم دولة في ظله . بمعنى تركيا الان هي الدولة الوحيدة التي تعمل ضد بناء الدولة الليبية واستقرارها وتعمل على تعبئة بمخزونها بالأسلحة التي ستشكل خطرا على المنطقة كلها لأن بعض الميليشيات التي تصلها هذه الأسلحة جهادية ولها صلات بجماعات إرهابية في كل الشمال الأفريقي وخلف الصحراء.
دار حديث عن كل الدول المتدخلة في الشأن الليبي والتي تدعم كل الأطراف، لكني كنت أركز على التدخل التركي معتبرا باقي التدخلات طبيعية ومؤقتة ولا يكمن وراءها حنين إلى ماضي إمبريالي أو أيديولوجيا ، لكن التدخل التركي مختلف والآن تثبت صحة هذه التصور، فكل الدول التي تدخلت في ليبيا تدعم بقوة الحوار الليبي الجاري الآن وتسعى لنجاحه ما عدا تركيا التي تشكك فيه وتشوش عليه بهذه الجسور الجوية والبحرية التي تكدس السلاح في أرض قابلة للانفجار في أي وقت، ولأن، أيضاً، استقرار ليبيا ليس في صالح مخطط أردوجان الذي دائما يرتبط حضوره في أكثر من مكان بمدى الاضطرابات فيها وبمدى قدرته على تأجيج الصراعات فيها.
المبدأ أخلاقي من الأساس ، ولا يمكن أن يكون حليف دولة ــ نسعى لأن تكون يوما مناصرة للديمقراطية والحقوق الإنسانية ــ فاشيٌّ تكتظ سجونه بالنخبة الممتازة من الشعب التركي، لأنها نخبة تعرقل جهوده في تحويل تركيا إلى دولة دينية على غرار إيران وإن بمظهر سني تحل فيه ولاية الخليفة بدل ولاية الفقيه.
من جانب آخر ، في ذروة الانقسام الليبي، لا يحق لحكومة جهة أو إقليم أن توقع معاهدات دولية تخص البلد برمته وضمن إعلان دستوري يؤكد على وحدة البلد ومركزي القرار، لا في الغرب ولا في الشرق ولا في الجنوب. مع العلم أن حتى البرلمان الممثل الشرعي الوحيد لليبيين حتى هذه الفترة لم يتجرأ على عقد اتفاقيات من هذا النوع تنطبق على كل البلد خصوصا وهو يدرك أنه يمثل مرحلة انتقالية ولم يجهز الدستور أو ينتخب رئيس البلاد من قبل الشعب ليصبح مخولا للدبلوماسية الخارجية وتوقيع اتفاقات خطيرة مثل هذه، وتوقيع هذه الاتفاقيات برعاية تيار واحد في ليبيا هو نفسه ما حدث في تونس من لقاءات بين أردوجان والغنوشي، لكن الشارع البقظ في تونس والمؤسسات الدستورية أوقفت هذا الاختراق لسيادة الدولة.
إذا كنا نريد للقيم الجديدة التي قامت من أجلها ثورة فبراير وكتبتها في بيانها وفي خطاب تحرير ليبيا من الاستبداد القديم، علينا أن نختار تحالفاتنا التي تخدم هذه القيم وتزيدها تجذرا، وان نتخذ موقفا من أي نظام ينكل بشعبه ونخبته ويملأ السجون سواء في تركيا أو حتى في مصر، لأن اتخاذ مثل هذه المواقف جزء أصيل من طموحات الربيع العربي الذي مازال يفعل فعله في المنطقة رغم كل محاولات التشويش والتشكيك وأحيانا السخرية.
لا يمكن أن نقضي على طاغية مجنون استخدم الدين بكل السبل للتدخل في شؤون الآخرين والعنتريات الكاذبة لنتحالف مع شبيه له تماما في كل شيء، في تنكيله بالداخل التركي والنخب وكل رأي مخالف وفي سياساته الخارجية المشوشة على دول الجوار والباعثة على الاضطرابات، وفي دعمه للجماعات الإرهابية الموثق وفي تكديسه للسلاح في أماكن عدم الاستقرار .
وهذا مبدأ أخلاقي قبل أن يكون سياسيا أو عسكريا أو أيديولوجيا .
الإسلام السياسي وعلى رأسه الأخوان غير مقبول في الشارع الليبي ، وهذا ليس كلاما اعتباطيا، لكنه اتضح بعد خوض 3 انتخابات فشل فيها تماما ، ولم يعد للواجهة إلا عبر الانقلاب المسلح والدعم الكبير الذي تلقاه من تركيا وقطر، وأرسى سياسة الأمر الواقع بديلا للمسار السياسي الذي اختاره الليبيون. ولا يمكن لتيار فقد الانتخابات ثلاث مرات أن يوقع معاهدات واتفاقات يلزم بها كل المجتمع بل وفي بعضها تهدد الأمن القومي وتهدد جيراننا كما في الاتفاقية البحرية.
وبالمغزى نفسه أقول لو أن الحكومة المؤقتة أو برلمان طبرق وقع اتفاقيات مماثلة، فسوف لن تكون أيضا ملزمة لكل البلد وكل الليبيين، لأنها وقِّعت في فترة انقسام واستقطاب حاد، وهي بالتالي ستكون عقبة أمام أي تقارب أو بناء دولة في المستقبل لأنها تحمل في داخلها آفة وجرثومة هذه الفترة العصيبة.