الإنكليز وديمقراطية “بوعكوز”
رفعت المحمد
في الديمقراطيات الفعلية يجب عدم إسكات “البرلمانات” أبدا، هذا هو الدرس المستفاد من قرار المحكمة العليا في بريطانيا اعتبار قرار رئيس الوزراء بوريس جونسون تعليق البرلمان خلال المرحلة الحساسة التي تسبق خروج بريطانيا من الاتحاد “غير قانوني” وأنه “لاغ ولا تأثير له”. ولتبرير مصادقة الملكة إليزابيت الثانية عليه، رمت رئيسة المحكمة العليا بريندا هايل الكرة في ملعب جونسون بالقول إن قرار إسداء مشورة لجلالة الملكة بتعليق البرلمان كان غير قانوني، معللة ذلك بأن “تأثيره تمثل في إحباط أو منع قدرة البرلمان على أداء وظائفه الدستورية”. جونسون ومن وراء البحار حيث يحضر اجتماعات الجمعية العمومية للأمم المتحدة تلقى الصفعة ساخنة جدا، ولعل الزعماء الذين التقاهم هناك، وبالأخص زعماء الاتحاد الأوروبي، لاحظوا احمرار وجهه من الهزيمة، ولم يقدروا على إخفاء “شبه شماتة به”، فرئيس كتلة الليبراليين في البرلمان الأوروبي علق قائلا إن ما يبعث على الارتياح في ملف بريكست الذي لا ينتهي أن حكم القانون في بريطانيا لا يزال قائما، بينما اختصر رئيس مجلس الاتحاد الأوروبي دونالد توسك نتيجة المفاوضات بأنه “لا تقدم. لا انهيار. لا وقت نضيعه”.
قرار المحكمة البريطانية بالنسبة لشعوبنا التي اعتادت النظر إلى قرار الحاكم نظرتها إلى النصوص الإلهية المقدسة غير القابلة حتى للنقاش، يشكّل صدمة يشوبها الأمل بأن نصل في مرحلة ما إلى هذه النقطة التي يمكن فيها لـ”برلمانتنا” أن تجتمع بمعزل عن أي ضغوط كانت لتقرر ما تراه في مصلحة البلد بعيدا عن أي تأثيرات خارجية أو داخلية، حتى لو كانت من زعماء محليين لا يحملون أي صفة رسمية، غير أنهم يتمتعون بتأثير قبلي يجعل قراراتهم نافذة، وغير قابلة للنقاش. وتحضرني هنا شخصية “بوعكوز” الليبي، الذي عطّل مرات عدّة جلسات مقررة للبرلمان من أجل المصادقة على قرارات مصيرية، ملوّحا بـ”عصاه”، ومهددا تارة بتفجير فندق السلام الذي سيجتمع فيه النوّاب، وتارة أخرى بقتل بعضهم، فقط لأن القرارات التي ستناقش لا تعجبه. القوة التي يستند إليها الثمانيني “بوعكوز” هي انتماؤه القبلي، الذي أتاح له أكثر من مرة التحدث عن إفشاله جلسات البرلمان بكل فخر، وبأنه أطفأ مرة الأنوار عن النواب في عز جلستهم غير آبه بهم أو بمن يمثلونهم من مختلف شرائح المجتمع، بل وصل الأمر به إلى تقويض المساعي الدولية لحل الأزمة عبر رفض عمل المبعوث الأممي غسان سلامة مختصرا موقفه منه بالقول إنه “لو كان به خير لعمل على حل مشاكل بلده لبنان”.
في رد جونسون قال إنه سيحترم حكم المحكمة العليا البريطانية، مضيفا: “إنني أختلف بشدة مع ما خلص إليه القضاة. لا أعتقد أنه صحيح، لكننا سنمضي قدما وبالتأكيد سيعاود البرلمان جلساته”، وهنا أتخيل السيناريو لو أتيح لجونسون أن يكون لديه “بوعكوزه” هل كان ليدعوه للجلوس أمام البرلمان البريطاني، بمجلسيه اللوردات والعموم، أو أمام قصر بكنغهام للضغط على الملكة، الإجابة لا تحتاج إلى تفكير عميق، فرئيسة الوزراء السابقة تيريزا ماي استقالت حين عجزت عن إقناع البرلمان باتفاقها مع الاتحاد الأوروبي، ومن قبلها استقال ديفيد كاميرون حين جاءت نتيجة الاستفتاء على البريكست مخالفة لسياسة حكومته؛ في احترام لقواعد الديمقراطية التي لا تعلوها سلطة “
بوعكوز” يمثل أحد أوجه مجتمعاتنا التي تبدو بعيدة جدا عن مسارات الديمقراطية الوعرة، حين تنتصر القبلية على المدنية… القبلية التي يمكن لها أن تبني سلطة، لكنها بالتأكيد عاجزة عن بناء دولة.