الأمن العربي وصراع ليبيا
أمل عبد العزيز الهزاني
ذكرت في مقالي السابق أن إردوغان لا يحترم آيديولوجيا «الإخوان المسلمين» ولا يؤمن بها، لكنه استخدم الجماعة كمبدأ عقدي للتوسع في المنطقة العربية، مثلما استخدم الخميني المذهب الشيعي، شعارات دينية وفكرية مزخرفة في ظاهرها لكن في حقيقتها مطايا ووسائل نقل.
وجماعة «الإخوان المسلمين» سهلة وثمنها رخيص، ليس مستغرباً منها هذا الخنوع، فتاريخها متخم بشراء الذمم والتآمر والتلون في سبيل الوصول إلى المنابر السياسية. وهي جماعة فاسدة، فخلال عقد واحد، باعت الجماعة ولاءاتها، وسربت لقطر أسراراً للدولة المصرية، وتماهت مع «حزب الله» اللبناني. قسموا السودان وزادوه فقراً وفساداً، وتآمروا في دول الخليج ضد حكامها، وحين كسرت شوكتهم في مصر هربوا زرافات إلى تركيا التي احتضنتهم كمرتزقة، مثل مرتزقتها في ليبيا من السوريين، الموعودين من إردوغان بألف دولار شهرياً بعد أن كان يعدهم بوطن.
ليبيا هي مسرح الصراع اليوم بين الروس والأميركان من جهة، وهناك الصراع المحلي بين الجيش الوطني والقبائل المؤيدة له ضد مشروع الإخوان المسلمين من جهة أخرى.
وحتى تكون الصورة أكثر وضوحاً، لنستعرض الموقف الأميركي الذي أثار التساؤلات حول تغاضيه عن تسليح الأتراك لحكومة فائق السراج التي تسيطر عليها جماعة «الإخوان المسلمين». السفن التركية المحملة بالقذائف والمنظومات الدفاعية تُبحر إلى الموانئ الليبية بعلم واشنطن، وتحت عين مراصد الدول الأوروبية المحاذية، من دون أن تواجه أي عوائق، حتى إن سفينة فرنسية تعرضت لتحذير من سفينة تركية في عباب البحر، من دون أن يكون هناك موقف فرنسي، عدا التصريحات الساخنة للرئيس ماكرون.
لماذا آثرت واشنطن سياسة الباب المفتوح للأتراك في ليبيا؟ في رأيي أن إدارة دونالد ترمب لا تريد أن تبدي الضعف نفسه الذي بدت عليه إدارة باراك أوباما حينما لم تستطع منع الروس من إقامة قاعدة روسية في طرطوس السورية. لا تزال الدولة العميقة في أميركا تتحسس من الوجود الروسي في المنطقة العربية التي تعتبرها تحت حمايتها ومن ضمن شؤونها، لن يسمح ترمب بتكرار خطأ استراتيجي كان يعاير فيه أوباما وفشله في إدارة الأزمة السورية.
روسيا من ناحيتها تتطلع لبناء قاعدة جوية دائمة لها في الجفرة الليبية، في وسط الصحراء، والطائرات الروسية موجودة فعلاً مع مسلحي شركة «فاغنر» الروسية. مع هذا، تواصل موسكو إعلامياً الدعوة إلى وقف فوري لإطلاق النار والعودة للمفاوضات. فهل من الممكن أن يحصل اشتباك روسي تركي على الأراضي الليبية، خاصة في محاولة تركيا الحثيثة لانتزاع «سرت» والنفط من الجيش الليبي؟ من المستبعد أن يقدم إردوغان على مواجهة مع الروس، وهو الذي تجنبها نصف عقد في سوريا. تركيا تستطيع مواجهة الجيش الليبي الوليد بترسانتها العسكرية كما فعلت حتى الآن، لكنها لن تشعل حرباً ضد روسيا. هذا ما يفسر تأخر مرتزقة تركيا في دخول مدينة «سرت» حتى الآن، لأنها ستواجه رد فعل روسياً، وأيضاً عربياً، لا يتضمن مصر فقط، بل دول الخليج التي تبدو منزعجة من التمدد التركي في المنطقة العربية.
للأسف، اتفاق الصخيرات الأممي الذي انبثقت عنه حكومة الوفاق، لم يراعِ التركيبة القبلية لليبيا، بل جاء بأشخاص مجهولين لا يمثل معظمهم الشعب الليبي، بل فُرضوا فرضاً عليه، وهذا ما أثار الناس ضده. فلو أنَّ هذا الاتفاق جاء بأناس مؤهلين من كل مناطق ليبيا لكتب له النجاح بالتأكيد وارتضاه كل الليبيين. لذا فإن مجلس النواب المنتخب انتخاباً شرعياً من قبل الشعب، لم يمنح الثقة لهذه الحكومة، وعدّها لا تمثل الشعب الليبي. وهذا بدوره أسس لكيانين سياسيين لكل فريق؛ البرلمان المؤيد للجيش الليبي بقيادة المشير خليفة حفتر، والمجلس الرئاسي الذي يهيمن عليه الإسلاميون. وكل كيان منهما معترف به دولياً، لكن محلياً لا تزال حكومة الوفاق المنبثقة عن المجلس الرئاسي تحتاج موافقة البرلمان عليها، وهو ما لم يحصل حتى الآن.
اتفاق الصخيرات عملياً منح الشرعية لكلا الطرفين المتنازعين بعد أن كانت الأجسام تبدو ضبابية. وهذا يعطينا تصور كيف أن التوافق بين الأطراف مقدم على هيكلة النظام، وتأسيس مجلس وتوزيع أدوار. فالحكومة طلبت دعم تركيا، والبرلمان من حقه دستورياً إيقاف هذا الإجراء لأنه مخول من الشعب أن يفعل ذلك، ومن حقه أن يطلب التدخل من أية دولة. وفي هذه العاصفة، الخطر لا يقع على الليبيين والمصريين فحسب، لكنه سيكون مباشراً على جنوب أوروبا التي عاشت فترة عصيبة من انعدام الثقة مع تركيا، حينما فتحت حدودها لآلاف اللاجئين باتجاه شواطئ اليونان، ثم رعاية أنقرة لميليشيات متطرفة مثل «داعش» و«جبهة النصرة»، واليوم تركيا تغذي ليبيا بالمرتزقة والسلاح الذي سيبقى طويلاً مهدداً للأمن القومي الليبي والمصري والأوروبي.
ما الحلول المطروحة في المشكل الليبي اليوم؟ أطماع إردوغان في ليبيا واضحة، ليس فقط في الحصول على أموال النفط، بل بناء شراكات عملاقة لصناعات الطاقة وتجارة السلاح، كنز لم يكلفه شيئاً حتى الآن، فالمسلحون سوريون، والنفقات على حساب النظام القطري المستباح. المتوقع استمرار دعوات وقف إطلاق النار من كل الأطراف عدا تركيا، لأنها لا تستطيع أن تتراجع، حتى تثبّت أقدامها في «سرت» القريبة من حقول النفط.
يبدو أنه لا أحد يستطيع أن يغير الموقف التركي سوى ترمب، الذي تسبب في انهيار الليرة التركية في يومين بسبب غضبة عابرة، لكن مشكلة الأميركيين أنهم يأتون متأخرين، 25 عاماً حتى تحركوا جدياً ضد مشروع إيران في المنطقة. لكن الناحية الإيجابية في المقارنة بين تطفل إيران وتركيا على المنطقة العربية، أن نظام الحكم في تركيا ليس شمولياً كما في إيران، هناك معارضة صلبة، وخصوم كانوا أصدقاء الماضي، ينتظرون اللحظة المناسبة للانقضاض على غريمهم الذي يسعى حثيثاً إلى الحكم الشمولي والاستبداد الفردي.