الأفلام ذات الميزانية المحدودة والتاريخ السينمائي
لجنة الأوسكار هذا العام وضعت الكثير من المحددات الجديدة لقبول الأعمال السينمائية فيها، والتي ركزت بشكلٍ رئيسيّ على ضمان التنوع الأيديولوجي والعرقي في الأعمال المقدمة إليها كل عام؛ بهدف جعل صناعة السينما مكانًا مريحًا للجميع على المدى الطويل.
وبغض النظر عن أبعاد وتبِعات هذا القرار، فإن محدداته لم تشمل الميزانية، وهذا يدل على أن السينما ليست مرتبطة بالمال، بقدر ما هي مرتبطة بفكرة الطرح ومضمونه وآليته. لذلك يمكن القول إن الأفلام ذات الميزانية المحدودة ليست بعيدة عن تخطي الحدود، وتحطيم شُباك التذاكر.
وإذا تم قياس الأمر على الصعيد التاريخ، فسنجد أنه حقيقيّ فعلًا، وهناك أفلام كثيرة حققت شهرة واسعة النطاق وحصلت على إيرادات عملاقة، بالرغم من أن ميزانياتها متواضعة إلى أقصى حد. اليوم نسرد مجموعة من تلك الأفلام، ذاكرين العوامل الفنية التي رفعتها نحو السماء، بغض النظر عن الميزانية المحدودة خاصتها.
فيلم Little Miss Sunshine
في فترة منتصف العقد الأول للألفية الثانية، كانت السينما الأمريكية مركزة بشكلٍ كبير على شُباك التذاكر العائلي، لذلك وقتها صدرت أفضل الأعمال الدرامية والاجتماعية التي يمكن للعائلة أن تشاهدها بأمان حتى وقتنا هذا؛ بالتأكيد السبب متعلق بالجمهور، لكن في النهاية النتيجة واحدة: المنافسية في تلك الشريحة كانت مهولة.
في ظل تلك المنافسة الشرسة، صُنع فيلم اجتماعي يحمل بين طياته قصة غير تقليدية ذات تأثير على المُشاهد؛ هو من العقبات الإبداعية لأي صانع أفلام، كأن تحاول تقديم عمل أبطال خارقين في 2020 مثلًا، في ظل وجود سلاسل Marvel و DC التي قطعت الطريق على الكثيرين بالفعل.
لكن بالرغم من كل ذلك، قدم الفيلم قصة بديعة تدور حول فتاة صغيرة تريد الحصول على لقب لأكثر فتاة جميلة، بالضبط مثل مسابقات الجمال الكُبرى، لكن على صعيد طفولي ومرح بعض الشيء.
قد يعتقد المرء أن القصة هادئة ولطيفة، لكن صدقًا، إنها حزينة للغاية. أخذنا السيناريو في رحلة لمشاهدة الكثير من التقلبات النفسية التي يعبر عنها البالغون في العادة؛ ظاهرة على وجه تلك الفتاة الصغيرة، وهذا أصعب شيء على القلب.
بفضل كل تلك العناصر استطاع الفيلم تحقيق إجمالي 100.5 مليون دولار إيرادات عالية، 59.9 مليون دولار محليًّا، مع ميزانية 8.8 مليون فقط، ليستحق له مكانًا ضمن قائمة الأفلام ذات الميزانية المحدودة والناجحة جدًا بقائمة اليوم.
فيلم Pulp Fiction
في منتصف تسعينيات القرن الماضي، ظهر على السطح اسم المخرج كوينتين تارنتينو بشكلٍ لا يمكن غض الطرف عنه أبدًا، وذلك بفضل فيلم Pulp Fiction بالتأكيد. إنه الفيلم الذي صنع حاليًّا الملايين من عشّاق المخرج، وهو الذي أكسبه شهرة جعلته حتى الآن أحد الأسماء السينمائية التي تُذكر باستمرار في أي محفل له علاقة بالأفلام أو الفن.
لا يمكن شرح قصة الفيلم إلا ويتم حرق جزء منها بدون قصد، حتى ولو كان المحرر ضابطًا لإيقاع الكلمات بالحرف، لذلك نترك محور القصة لكم. لكن على ذكر القصة، فهي حقًا مثيرة للاهتمام، واستطاع فيها صانع الفيلم التركيز على الكثير من الجوانب العبثية لحياة الإنسان.
تلك الجوانب التي في بعض الأحيان قد تكون لها تفسيرات بديهية ومنطقية جدًا، وفي البعض الآخر تكون مجرد تداعيات لرغبات بشرية لا تريد شيئًا من الحياة إلا الدمار والخراب. الفيلم واحد من الأفلام ذات الميزانية المحدودة تحت خط الـ 10 ملايين دولار، ترشح الفيلم لجوائز عديدة وحقق 213.9 مليونا أرباحا، على ميزانية لم تتجاوز الـ 8 ملايين فقط.
فيلم SAW
الجريمة والعقاب دائمًا وأبدًا مادة خصبة لأعمال سينمائية كثيرة، وفي الأغلب كلها تندرج أسفل تصنيف الأكشن والدراما، وفي بعض الأحيان الحبكات البوليسية والسوداوية النفسية، وربما سلسلة أفلام Hannibal خير مثال على هذا. لكن سلسلة SAW أتت وضربت بهذا المفهوم عرض الحائط، وقدمته في تصنيف الرعب، وأبدعت فعلًا أيّما إبداع.
قصة السلسلة تدور حول رجل لن تظهر شخصيته إلا لاحقًا خلال الأحداث، يقوم بمراقبة بعض المجرمين خلال حياتهم اليومية، حتى يتأكد من أفعالهم الدنيئة، ويقرر هو محاسبتهم بنفسه بدلًا من الحكومة؛ نفس الحكومة التي لا تهتم بهم إما لوجود رشاوى مدفوعة، أو سمعتهم جيدة لدرجة لا تسمح لهم باقتراف الأفعال المشينة بهذا الشكل الفجّ.
لكن تطبيقه للعدالة الذاتية ليس بسيطًا كما قد يعتقد البعض، لا يقوم بقتلهم مباشرة مثلًا، أو حتى حبسهم في غرفة حتى يموتون من الجوع والعطش؛ هو في الواقع يضعهم في لعبة خطيرة مفادها هو: البقاء للأنقى.
السلسلة كلها قائمة على فكرة وجود مجرمين في بداية الفيلم، وأحدهم هو الذي ينجو في النهاية، وبالمنتصف نرى التصارع العنيف لدواخل النفس البشرية، والتي تُظهر حقيقتها عندما تكون الحياة على المحك. تُعتبر السلسلة مرجعًا سيكولوجيًّا للكثيرين، ولها شعبية كبيرة نظرًا لإخراجها بطريقة إرعابية ممتازة لم تشعر المُشاهد أنه يتفاعل مع سلسلة كانت ميزانية فيلمها الأول هي 1.2 مليون دولار فقط.
إنه نفس الفيلم الذي حقق 103.9 ملايين كإيرادات عالمية، وانتهى تصويره بالكامل في 18 يوما لا أكثر، ولا أقل، ليكون بذلك واحدًا من أشهر الأفلام ذات الميزانية المحدودة في التاريخ.والجدير بالذكر أن السلسلة بشكلٍ عام إذا جمعنا إيراداتها سويًّا على المستوى العالمي، يمكن الوصول إلى رقم يفوق المليار دولار؛ فقط من شباك التذاكر.
فيلم Rocky
هناك ممثلون حولهم الكثير من الضجة الإعلامية في هوليوود، بداية من ظهورهم على الساحة الفنية، وحتى وقتنا هذا بعد أن طعنوا في السن، وظهرت عليهم علامات الكِبر. أحد هؤلاء العظماء هو سيلفستر ستالون، ربما يختلف البعض حول قدراته التمثيلية، واختياره للأدوار التي يقدمها على الشاشة، لكن لا يمكن لأحد أن يُنكر فضله في تقديم شخصيات سينمائية خالدة في تاريخ الفن، وفي قلوب كل من تعرف عليها، وأيضًا دوره في إثبات أن الأفلام ذات الميزانية المحدودة قادرة على تحقيق الكثير.
واحدة من الشخصيات التي قدمها الممثل هي شخصية (روكي)، من الفيلم الشهير الذي يحمل نفس الاسم. تتحدث القصة عن فتى يشق طريقه من قاع المجتمع، إلى ألمع صالات الملاكمة الاحترافية. فيلم عن قصة نجاح الإنسان في المجال الذي يحبه، فقط إذا استطاع بذل المجهود وتحمل منعطفات اليأس الصغيرة التي ستقابله أثناء الرحلة. مجملًا يمكن النظر للفيلم على أنه توليفة من الإخراج المتوسط، التمثيل المتوسط، لكن القصة ذات الأحداث التصاعدية بامتياز.
حقق الفيلم على المستوى العالمي إيرادات شباك تذاكر بلغت الـ 117.2 مليون دولار أمريكي، بجانب مبيعات أقراص الـ DVD التي كان لها صدى عالمي كذلك. كل هذا مع ميزانية هزيلة إلى أقصى أقصى حد؛ 1 مليون دولار فقط. مجرد 1 استطاع تحقيق 116.2 من المكاسب، وذلك اعتمادًا على شهرة سيلفستر بالطبع في ذاك الوقت، حيث إنه الذي صنع روكي، وليس أموال المنتج على أي حال.
فيلم Blair Witch
بميزانية 60 ألف دولار، استطاع هذا الفيلم تحقيق إيرادات بلغت الـ 250 مليون على شباك التذاكر العالمي، وهذا مع عدم الأخذ في الحسبان الأموال القادمة من بيع حقوق النشر والتوزيع، بجانب مكاسب إعطاء العلامة التجارية للمستلزمات الاستهلاكية مثل الحقائب والملابس وغيرها من الاكسسوارات التي تُباع بسهولة شديدة هذه الأيام.
الفيلم إنتاجه مستقل، وهذا ما ميزه جدًا وبرر الميزانية المحدودة خاصته، تلك الميزانية التي يمكن التوقع أنها ستجعل الفيلم فاشلًا بكل المقاييس، إلا أن العكس هو ما حدث بالطبع، ليصير واحدًا من الأفلام ذات الميزانية المحدودة التي تحقق مبيعات لا يستهان بها أبدًا.
تتحدث القصة عن مجموعة شباب يدرسون صناعة الأفلام بالجامعة، وأخيرًا أتى الوقت الذي يقدمون فيه المشروع المحوري في حياتهم الفنية؛ تقديم فيلم سينمائيّ يصلح لتخليد اسمهم في صفحات تاريخ الجامعة كأول من قدم عملًا غير مألوف.
وبالفعل، يذهب الأبطال إلى غابة مرعبة تكاثرت حولها الأقاويل بخصوص أسطورة الساحرة المشؤومة التي تسكنها، ليصوروا فيلما وثائقيا عنها، وعن الأكاذيب التي تلبستها. حسنًا، في النهاية لا يترك الفتيان من خلفهم إلا المقاطع التي صوروها؛ فماذا فعلت بهم هذه الساحرة المزعومة؟
فيلم Paranormal Activity
واحد من الأفلام ذات الميزانية المحدودة الممتازة فعلًا، والسلسلة بالكامل تستحق المتابعة بدون شك. بدأت السلسلة كلها بفيلم واحد فقط ميزانيته لم تتجاوز الـ 15 ألف دولار أمريكي، وحقق إيرادات عالمية بلغت الـ 193 مليون، وفي النهاية قررت شركة Paramount/DreamWorks الاستحواذ على حقوقه نشره وتوزيعه لاحقًا في الولايات المتحدة الأمريكية بمبلغ 350 ألف دولار.
يمكن القول إن المبيعات الإجمالية للفيلم كشباك تذاكر وكملحقات أخرى وكذلك كحقوق نشر في أماكن مختلفة، تجاوزت الـ 200 مليون على أقل تقدير؛ أجل، من 15 ألف إلى 200 مليون، هذه فعلًا نقلة عملاقة.
قصة الفيلم بسيطة جدًا في الواقع، الأمر كله يدور حول زوجين انتقلا حديثًا إلى منزل في ضواحي المدينة، يسوده الهدوء ويتميز بالأجواء التي لا توحي بالخطر على الإطلاق؛ وهذا كان المريب في صفقة الشراء نفسها: منزل أهدأ من اللازم. مع الوقت بدأ الزوجان باستشعار وجود شيطاني غريب في منزلهم، وخصوصًا في الليل.
لاحقًا نذهب مع صنّاع الفيلم في رحلة بعالم الخوارق محدود الأماكن والزوايا التصويرية، لنُعايش تجربة سينمائية تبدو من الخارج بسيطة ومألوفة للغاية، لكن من الداخل تحمل بين طياتها أقصى معالم الرعب.