احذر من التثاؤب في ليبيا
سالم العوكلي
لأن فعل زقب سيكون مهما فيما يأتي وسيتكرر مرارا، سأبدا بشرح معانيه المختلفة كما جاءت في قاموس تاج العروس، وثم كيف تحول هذا الفعل ومصدره إلى دلالات جديدة في قاموس الفساد الليبي الذي استشرى من عقود وأصبحت له مفرداته ومصطلحاته ودلالاته وقيمه المختلفة.
زَقَبَهُ في الجُحْرِ : أَدْخَلَه فزَقَبَ هُوَ وزَقَبْتُ الجُرَذَ في الكُوَّةِ فانْزَقَبَ أَي أَدْخَلْتُه فدَخَلَ . وانْزَقَبَ في جُحْرِه : دَخَل . ويُقَالُ : انْزَبَقَ وانْزَقَب إِذا دَخَل في الشَّيءِ . والزَّقَبُ مُحَرَّكَةً : الطَّرِيقُ الضَّيِّق والزَّقَبُ : الطُّرُقُ الضَّيِّقَةُ وَاحِدَتُه زَقَبَة بهاء أَو هِي والجَمْعُ سَوَاء . وطَرِيقٌ زَقَبٌ : ضَيِّقٌ.
دخل هذا الفعل ومصطلحه في اللهجة الليبية (ازقوب) إلى قاموسنا بما يشكل ظاهرة اجتماعية مع عقد الثمانينيات كوسيلة مقترحة لإلهاء الناس عن الفساد وهزائم الحروب والخراب الذي بدأ يطال البنية الإدارية والقانونية وانحدار مستوى المعيشة، وأتيح لك شخص أن يكون له أمل في حل مشاكله عبر هذه الآلية الفوضوية، فابنك من الممكن أن يزقب في مرحلة تعليمية متقدمة عن طريق نظام الترحيل، ومن الممكن أن يزقب في الجامعة عن طريق الغش، ولحل أزمة السكن من الممكن الزقوب في بيت مصادر أو منشأة عامة، ومن الممكن الزقوب في منصب كبير عبر التصعيد القبلي حتى وإن كانت شهادتك الإبتدائية نظام قديم. وحين عادت من جديد التجارة؛ التي كان ذكرها محرما كمصطلح في وسائل الإعلام والمناهج الدراسية، تحت قناع ما يسمى بالموزع الفرد، بعد عقد كامل من التجارة التي أممتها الشركات العامة والتي تحولت جميعها إلى أكاديمية ضخمة للتمارين على فنون الفساد وتنمية السرقة، أصبح الزقوب في أي جحر اسمنتي شاغر لتحويله إلى دكان شائعا، حتى راجت تعليقات تقول لو تتثاءب فسوف يزقب شخص في فمك ويستغله دكانا.
لإلهاء الناس كانت تقام مشاريع سكنية في كثير من المدن والقرى وحين تصل نسبة الإنجاز فيها إلى 50% أو أقل، تحث الأجهزة الأمنية الناس على الزقوب فيها للتخص من باقي مستخلصاتها، وفي ليلة وضحاها يجتاح الغوغاء المشاريع السكنية وتنسحب الشركات المنفذة، ومازالت هذه الأحياء تعاني حتى الآن من فقر تام في الخدمات من رصف أو صرف صحي أو غيرها، وتبدو كأنها مخيمات لاجئين بنيت بشكل عشوائي ومؤقت.
طال الزقوب البيوت التابعة للمستشفيات والمستوصفات، وقابينات الكهرباء، وحتى معسكرات الجيش نفسه، احدهم احتل مقرا للصواريخ تابع للدفاع الجوي وسكن في التريلات الخاصة بالجنود، وبعيني رأيت أولاده وهم يلعبون لعبة التزحلق على الصواريخ الصدئة.
ولتأكيد نظرية الإلهاء القابعة خلف هذه التقنية الجماهيرية، بعد سقوط النظام التونسي وهروب زين العابدين من تونس، توجه القذافي إلى الجنوب ليلقي خطابا كل ما أذكره منه أنه حث الشباب على الزقوب في المشاريع السكنية التي لم تستكمل في كل أنحاء ليبيا، لكي يختلط الثاقب بالزاقب، ويلتهي الشباب باستكمال البيوت بدل أن يقلدوا ما حدث في تونس ومصر، وكانت هذه الدعوة آخر حملة زقوب بأمر من الحاكم واكبت النظام الجماهيري السابق.
بعد فبراير استمرت هذه الظاهرة وتضخمت أكثر بعد أن تخلصت من كونها كانت تحت السيطرة أو موجهة من سلطات عليا. ومنذ الأيام الأولى للحراك بدأ الزقوب في السيارات االمستوردة المكدسة بالموانئ، ثم انتقل إلى جميع الأملاك العامة بما فيها مراكز الشرطة والبحث الجنائي وشرطة المرور ومعسكرات الجيش ومحطات الدواجن والأبقار والمثابات، إضافة إلى بيوت رجال النظام السابق الذين نزحوا خارج وداخل ليبيا ، والأراضي المملوكة للدولة والشواطيء، ليصل الأمر إلى الحشود التي زقبت على ظهر الثورة نفسها وزقبت في مواكب الشهداء.
اما الزقوب في المناصب والشهادات الجامعية وشهادات الماجستير والدكتوراه فحدث ولاحرج، بل الأمر تجاوز كل هذا إلى الزقوب في صناديق الاقتراع و في كراسي أعلى السلطات، فحين خسرت أحزاب الإسلام السياسي الانتخابات زقبت في المؤتمر الوطني عبر نافذة سموها كتلة الوفاء لدم الشهداء، ودفعوا لكثير من أعضاء الحزب الفائز والأعضاء المستقلين خلو رجل كي ينتقلوا لهذه الكتلة بما فيهم أعضاء محسوبين على اليسار الليبي المتهالك، ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل زقبوا في أجسام مازالت على الورق ولم تستكمل شرعيتها القانوينة كما حدث في مجلس الدولة الأعلى الاستشاري الذي مازال الزاقبون فيه في المشهد مثلهم مثل الزاقبين في كل شيء في هذا البلد الذي تحول إلى مضمار للقفز الطويل والقصير. غير أن الفارق بين الزقوب والقفز، هو أن القفز ممكن أن يكون إلى أعلى ولكن الزقوب دائما إلى أسفل.
أعيد هذا الهوس الليبي بالزقوب إلى جينات متحدرة منذ القدم عندما كان الإنسان القديم يعيش مع باقي الثدييات وغير الثدييات في أمكنة لا تضبطها قوانين، حيث الكهف لمن يزقب فيه أولا، وحيث الأرض المشاع لمن يحرثها أولا، وهو سلوك كنا نشترك فيه مع الكثير من الكائنات التي نشاركها الحياة في الغابة أو الصحراء، حيث كانت الحيوانات البرية والزواحف والحشرات الكسولة تنتهك جحور الكائنات الكادحة وتستولي عليها. مع الترقي الإنساني تحققت مبادئ الملكية المقدسة التي تضبطها قوانين وتشريعات صارمة وسجلات عقارية وحقوق ملكية، وقد تواصلنا لفترة مع هذا النمط من العيش الإنساني، ولكن في غفلة من التاريخ زقب ملازم ثاني في أعلى سلطة في بلد شاخ حاكمها وزهد في السلطة، وعطل القوانين كافة، وتحت شعارات البيت لساكنه، والأرض ليست ملكا لأحد، وآلية الجمهرة، انتعشت هذه الجينات القديمة وعادت عادة الزقوب في كل شيء، وعلى ضوء النار التي أشعلت في ملفات السجلات العقارية وسط احتفالات ضخمة كان الجميع يتحسس طريقا إلى جحر شاغر كي ينتهكه ويصبح ملكه وفق قانون حُرر من أجل حماية هذا الانتهاك. وما يحدث الآن ما هو إلا استثمار لخريجي تلك الأكاديمية الضخمة التي تخرجت منها أجيال متتابعة، شعارها : ازقب وبعدين ساهل، لأنهم يعرفون أن المسؤول نفسه زاقب في كرسيه وسيتعاطف مع الزاقبين بكل أنواعهم، ويُزوّر لهم إجراءات الملكية أو يعطيهم الشرعية. يحدث هذا مع مواطن يستبيح ملكية عامة، ومع جسم سيادي يستبيح سلطة عليا.