إيران ورياح ترمب
غسان شربل
يطالب دونالد ترمب النظام الإيراني بما لا قدرة له على تحقيقه أو التجاوب معه. يطالبه بطلاق نهائي مع الحلم النووي الذي يعتبره بعض الصقور «بوليصة تأمين» ضد المفاجآت الأميركية. يطالبه أيضاً بدفع الثورة إلى التقاعد، في ظل دولة تقيم بجيشها و«حرسها» داخل خريطتها، وتمتنع عن اختراق خرائط الآخرين، وزعزعة استقرارهم وتطويقهم بالصواريخ. يطالبه بالانصياع لشروط الدولة الطبيعية التي لا تبيح لنفسها حق استخدام عائداتها النفطية وميليشياتها لإعادة تشكيل الإقليم وفق مخططاتها، والإمساك بقرار هذه العاصمة أو تلك. ويقول العارفون بالنظام الإيراني إن النفخ في جمر الثورة من شروط حياة هذا النظام، وإن الامتناع عن «تصدير الثورة» ينسف المشروع برمته، ويضع النظام أمام امتحان الأرقام الاقتصادية في الداخل، وهي غير مشجعة على الإطلاق.
هكذا يبدأ اليوم فصل جديد في المواجهة الأميركية – الإيرانية المفتوحة منذ أربعة عقود. مواجهة سياسية ودبلوماسية واقتصادية تخللتها محطات أمنية، لكن من دون الانزلاق إلى مواجهة عسكرية واسعة ومباشرة. وثمة من يعتقد أن الفصل الجديد قد يكون الأصعب، وأن نتائجه ستحدد موقع إيران على الخريطة الإقليمية، وحجم دورها. فالعقوبات الأميركية التي بدأ سريانها منذ فجر اليوم تستهدف قطاعي النفط والمصارف الحيويين. ويتفق المحللون أن العقوبات ستلحق أضراراً كبيرة بالاقتصاد الإيراني، على رغم البراعة التي اكتسبها الإيرانيون في الالتفاف على العقوبات. ولا مبالغة في القول إن دول المنطقة معنية تماماً بما سيؤول إليه الفصل الجديد من المواجهة، ذلك أن طهران منخرطة بعمق في نزاعات المنطقة، وهي تدير منذ عقود برنامجاً انقلابياً واسعاً على توازناتها السابقة والأدوار التقليدية فيها.
عشية الفصل الجديد، كانت الرسائل المتبادلة صريحة وساخنة. الرئيس ترمب قال بوضوح إن «الهدف هو إرغام النظام على القيام بخيار واضح: إما أن يتخلى عن سلوكه المدمر أو يواصل على طريق الكارثة الاقتصادية»، وأضاف: «إننا ندعو النظام إلى التخلي عن طموحاته النووية، وتغيير سلوكه، واحترام حقوق شعبه، والعودة بحسن نية إلى طاولة المفاوضات». عبر تصريحات متعددة لأركانها، رسمت الإدارة الأميركية ملامح توجهها، وأكدت أن الهدف هو تغيير سلوك إيران، وليس تغيير نظامها، وأن الباب مفتوح للعودة إلى طاولة المفاوضات، إذا قررت طهران جدياً إعادة النظر في سلوكها وطموحاتها.
على الضفة الأخرى، كانت الرسائل واضحة أيضاً. نزل آلاف الإيرانيين إلى شوارع طهران، وأعادوا إلى الذاكرة ما حدث في الرابع من نوفمبر (تشرين الثاني) 1979. ففي ذلك اليوم، انقض متظاهرون على السفارة الأميركية في طهران واجتاحوها. على مدى 444 يوماً، احتجز الطلاب الغاضبون 52 أميركياً. كان الغرض إذلال «الشيطان الأكبر»، والإيحاء أن أميركا نفسها اقتيدت إلى أقفاص صغيرة أسوة برهائن سفارتها. كان الهتاف المدوي يومها هو «الموت لأميركا». وعلى مدى عقود، كان الهتاف يتكرر، لكن الواضح هو أن أميركا لم تمت، والدليل أنها تطلق اعتباراً من اليوم جولة جديدة من العقوبات غير المسبوقة على النظام الإيراني. وفي سياق التعبئة لمواجهة المرحلة الجديدة، أطل قادة «الحرس الثوري» مشددين على الصمود. وتدخل المرشد علي خامنئي ليعلن أن ترمب «ألحق العار بما تبقى من هيبة أميركا والليبرالية الديمقراطية».
قبل انتخابه رئيساً، اعتبر ترمب الاتفاق النووي مع إيران «كارثة»، مشيراً إلى أنه منحها شهادة حسن سلوك من دون أن تغير سلوكها. واعتبر أن الاتفاق سمح لطهران بتوظيف عائداته المالية والدبلوماسية في مواصلة برنامجها الباليستي، ونهج زعزعة الاستقرار لتغيير أنظمة دول وهويات مدن. وكان هناك من يعتقد أن ترمب سيلوح بمغادرة الاتفاق لكنه لن ينفذ تهديده، خصوصاً أن الموقعين الآخرين جاهروا بمعارضتهم لخطوته. لكنه ترمب. يصعب أن تتوقع المدى الذي يمكن أن يذهب إليه في هذا الملف أو ذاك.
يأتي الفصل الجديد من العقوبات الأميركية في وقت لم تعد الصعوبات التي يعيشها الاقتصاد الإيراني خافية على أحد. حملت الشهور الماضية مؤشرات صريحة: تراجع قيمة الريال وزيادة معدلات التضخم والبطالة. الاحتجاجات الإيرانية المتنقلة عبرت هي الأخرى عن نقمة شعبية تجلت في إضرابات سائقي الشاحنات والمدرسين. يضاف إلى ذلك شعور الإيراني العادي أن عليه الاستعداد لأيام أصعب تلزمه بشد الحزام أكثر من ذي قبل.
في المقابل، لا تملك السلطات الإيرانية خيارات كثيرة. واضح أنها تحاول استدراج موقف أوروبي أقوى أو أكثر وضوحاً. لا شيء يوحي أن أوروبا قادرة على لعب دور استثنائي في هذا السياق. «الآلية المالية» التي جرى الحديث عنها لن تعمل قبل شهور، وقد تكون محدودة النتائج. الشركات الأوروبية الكبرى تفضل السلامة، ويصعب أن تختار الأسواق الإيرانية، إذا كانت تعني خسارة الأسواق الأميركية. ثم إن أوروبا ليست في أفضل أيامها. بريطانيا تتابع إعداد إجراءات الطلاق. وظاهرة التمرد على روح الاتحاد الأوروبي تنتشر. وأنجيلا ميركل ليست راغبة في البحث عن ولاية جديدة، وثمة من يتوقع وقوع ألمانيا في قدر من عدم الاستقرار السياسي.
تراهن إيران على الوقت. ولعلها تراهن على قدرتها على انتظار نهاية ولاية ترمب. تراهن أيضاً على أصوات أوروبية تعتقد أن العقوبات تصيب الناس، ولا تضعف هذا النوع من الأنظمة، وأن التيار الإصلاحي في إيران سيكون الضحية الأولى لأي عقوبات جديدة سيصورها النظام حصاراً على البلاد لا على نظامها. يحلم ترمب، في ضوء السابقة الكورية الشمالية، أن تؤدي العقوبات المؤلمة إلى إقناع إيران بالعودة إلى طاولة المفاوضات، مع الاستعداد هذه المرة لتغيير سلوكها. لا بد من الانتظار لمعرفة ما إذا كانت إيران ستكتفي بمقاومة العقوبات داخل حدودها أم ستحرك أوراقها الإقليمية في هذه الدولة أو تلك. وهل تصل الردود الإيرانية إلى حد التحرش مباشرة أو بالواسطة بالجنود الأميركيين في المنطقة أو بأمن المضائق والممرات.
فصل جديد يبدأ. ها هي رياح العقوبات تهب على الاقتصاد الإيراني. وفي موسم الرياح، لا بد من الالتفات إلى حزام الأمان.
نقلا عن: الشرق الأوسط اللندنية