إنجاز، احتفاءً بإنجازات
(قراءة في كتاب: محمد الفقيه صالح، في الثقافة الليبية المعاصرة، ملامح ومتابعات*)
عمر أبو القاسم الككلي
يمكن القول أن الحركة الثقافية الوطنية الليبية المعاصرةبدأت في التشكل والتركز مع النصف الثاني من أربعينياتالقرن العشرين. أي عقب نهاية الحرب العالمية الثانية وتوفرإمكانية تنفس أفضل للمثقفين الوطنيين الليبيين بخروجالبلاد من خناق الاستعمار الإيطالي وعودة زملائهم المثقفينمن المنافي والمهاجر. هذه المجموعات من المثقفين هي التيأسست الصحف وأنشأت الأحزاب وأدارت المعركة السياسيةلنيل الاستقلال. ومع حصول البلاد على استقلالها سنة1952 واصلت مهمتها مع ارتفادها بأصوات جديدة شابةفي الخمسينيات والستينيات. وكانت هذه الأجيال منالمثقفين منشغلة، بل ومهجوسة، بمسألة تأسيس وبلورة الروحالثقافية العامة لهذا الكيان الوطني الوليد. أي ببلورة الهويةالوطنية. لذا اجتهدت هذه الشخصيات في بناء نفسها علىأساس تنوع معرفي وثقافي كي تتمكن من الإسهام فيأكثر من مجال من مجالات الثقافة بما تقتضيه مهمة البناءالوطني التحرري التي حزمت أمرها على التطوع والانخراطفيها. ويصدق على هذا الرعيل الأول من المثقفين ما يروىعن علي مصطفى المصراتي، أحد رموز هذه الفترةالبارزين، من أنه قال بأن مثقفي تلك الفترة كانوا مثل بقالالقرية الذي يحرص على توفير حاجيات زبائنه من حبالوفؤوس وكيروسين ودقيق وسكر وزيت وإبر وخيوط وحلوى،وما إلى ذلك.
وحين ظهر جيل السبعينيات، ذلك الجيل المتكون من مواليدالنصف الأول من عقد الخمسينيات وكان أفراده في هذهالفترة في العشرينيات من أعمارهم، كان هذا الهم موروثاوماثلا لدى طلائعه التي كانت تحاول ضبط خطاها علىدرب الثقافة الوطنية. فلقد كان هم هذه الطلائع رفد النهرالذي استنبعه مثقفو الأربعينيات والخمسينيات والستينياتبينابيع جديدة وتعميق مجراه من خلال السعي في تنويعمصادر ومجالات عتادها الثقافي والفكري والإسهام فيأكثر من مجال. والبرهان على ذلك كتاب محمد الفقيه صالحالذي نتناوله بالحديث الآن والذي تتوزع مقالاته بين النقدالأدبي والفكري والتاريخي، وكان يمكن أن تتنوع أكثر. فمحمد الفقيه صالح كتب في فترة السجن، في الثمانينيات،مقالين مهمين عن فلم تونسي متميز وآخر مصري عرضا فيالتلفزيون الليبي آنذاك، ما يدل على أنه يستطيع أن يكتب،باقتدار وعمق، في مجالات أخرى، لو أراد.
ويمكن أن يعتبر جيل السبعينيات في ليبيا جناحا من نفسالجيل على مستوى المنطقة العربية. إذ للمرة الأولى، تقريبا،يكون ثمة جيل عربي يؤطره مزاج عام وتجمع بينه ملامحمشتركة على المستوى العربي. إلا أن جناحه الليبي تعرضإلى هجمات، أكثر ضراوة من أي مكان آخر في المنطقة، أصابته بالتمزق والإعاقة. إذ إن قسما كبيرا منه كان مَعيناقويا غذى التوجه الفاشي الغوغائي الذي ميز النظامالسياسي في ليبيا إثر انقلاب 1969 العسكري الذي انتهجسياسة الإفقار الثقافي للمجتمع. فزج بعدد من طلائعهالمثقفة في السجن، و نفذ عدد منهم بمصيره إلى المنافيالاختيارية، على حين اضطر عدد آخر إلى التقوقعوالصمت، وحاول عدد قليل البقاء في الميدان والتحايلللحفاظ على بعض الجمرات حية. وبطبيعة الحال كان القسمالأغلب منه أناسا عاديين مارسوا حياتهم اليومية وفق ماتقتضيه الظروف.
والكتاب الذي هو محل اهتمامنا الآن، يمثل، في نظري، أحدالإنجازات الثقافية البارزة لجيل السبعينيات في ليبيا. الجيلالذي حباني القدر بأن أكون من ضمن مثقفيه وكتابه.
حضور هذا الجيل يحتل مساحة مهمة من الكتاب. فنجدمقالا بعنوان “مقارنة بين جيل السبعينيات الشعري في ليبياومصر” (ص 18). وبالنسبة إلى حضور الكتاب السبعينييننجد في مجال الشعر مقالا عن الشاعر عاشور الطويبي. وفي جانب السرد نلتقي بمقال عن عمر أبو القاسم الككليوآخر عن جمعة بوكليب. وفي رحاب الفكر يوجد مقالانأحدهما عن دكتور الفلسفة نجيب الحصادي والثاني عندكتور العلوم السياسية محمود جبريل، وفي حقل التاريخنجد مقالا عن دكتور العلوم السياسية والمؤرخ علي عبداللطيف حميدة.
وهذا يعني أن هذا الكتاب، مثلما هو إنجاز من إنجازاتجيلنا، مكرس بقدر معتبر للاحتفاء بإنجازات جيلنا. جيلالسبعينيات.
لكن محمد الفقيه صالح، باعتباره مثقفا وشاعرا وكاتباوطنيا، لا يقتصر على تناول أعمال مجاييليه، إذ إنالاقتصار على ذلك يعد خروجا عن منهج الرؤية الوطنية التيينتمي إليها التيار العريض في أجيال الثقافة الليبيةالمعاصرة قاطبة. هذه الرؤية الوطنية، التي رغم إيمانهابالتطور الثقافي، لا تؤمن بالقطيعة بين الأجيال والبداية منالصفر، وإنما تؤمن بالتراكم والامتداد. لذلك نجد مبدأالتواصل الثقافي لاحما مواد الكتاب. ففي مجال الشعرهناك مقال ضاف عن الشاعر إبراهيم الأسطى عمر (1908 –1950) وهو شاعر عمودي نشط شعريا في أربعينياتالقرن العشرين. وهناك أكثر من مقال عن الشاعر محمدالشلطامي (1944-2010) من تيار الشعر الحر أو قصيدةالتفعيلة وبرز على الساحة الشعرية منذ أواخر الستينيات. نجد أيضا مقالا عن الجيلاني طريبشان (1944- 2001) وهو أيضا من تيار الشعر الحر ومن نفس جيل الشلطامي. وثمة مقال عن الشاعر عاشور الطويبي من جيلالسبعينيات، وهو من شعراء قصيدة النثر والنص المفتوح. في مجال السرد لدينا أكثر من مقال عن يوسف القويريالذي عاد إلى ليبيا نهاية الخمسينيات من المهجر وأسهم منفوره في الحركة الثقافية الوطنية الليبية، ومقالا عن إبراهيمالكوني الذي دخل الساحة الثقافية منذ نهاية الستينيات،ومقالا عن عمر أبو القاسم الككلي وآخر عن جمعة بوكليبوهما من كتاب السبعينيات.
ومن هنا نلاحظ حضور الرؤية العامة الضابطة لـ (كي لاأقول: المتحكمة في) مواد هذا الكتاب. إنها الرؤية الوطنيةالتحررية التقدمية وما ينبثق عنها من تأصيل وإيمانبتواصل التاريخ الثقافي الليبي، مهما لحقته من تطوراتوتبدلات،عبر الأجيال، مهما تعارضت واختلفت رؤاها، دونوجود قطيعة، وإن وجد ما شارف حدود الانقطاع بسببالممارسات الاستبدادية المعادية للحراك الثقافي الحر التيانتهجها نظام القذافي. كما نلمس عناد وحيوية هذه الحركةوعزمها على مواجهة الظروف المعاكسة.
ونحن إذ نبرز هذه الملامح في كتاب محمد الفقيه صالح لاندعي فطنة خاصة. ذلك أنه يصرح بها في مقدمة الكتاب،ما يدل على وعيه الحاد والمرهف بها.
فبخصوص مسألة التأصيل يصف المؤلف مقالات هذاالكتاب بكونها لم تتخل “عن هاجس التأصيل لثقافتنا الليبيةالمعاصرة، وإبراز مجموعة من علاماتها المضيئة” (ص 5). وفي ما يتعلق بظروف الحياة الثقافية الليبية يقول أنه كانيتلمس فيها “باهتمام ودأب، نبض حياتنا الثقافية الليبية،وما يعتمل فيها من أسئلة ومشاغل” (ص 5). وهذا بالطبعداخل الاهتمام الوطني الذي يفدحه ما يحيق من خطر بـ
“ثقافتنا الوطنية، في هذه المرحلة العصيبة الحرجة، منخطر داهم، حيث تتربص بها قوى سياسية وفكرية معروفة،تتخندق إما وراء الأيديولوجيا العابرة لفكرة الدولة المدنيةالوطنية، أو وراء أيديولوجيات الهويات الفرعية الصغرى(القبلية والجهوية والإثنية والانفصالية) مستهدفة طمسخصوصيات ذاكرتنا الجمعية، وحرف انشغالنا بالتنميةوالتطور الاجتماعي إلى قضايا مفتعلة وجانبية، وإشاعةرؤية عدمية، توازي تماما الرؤية العدمية لتراثنا الوطني،السياسي والاجتماعي والثقافي، التي دأب النظامالاستبدادي السابق على ترسيخها طيلة أربعة عقود منالزمن” (ص 5).
ما يعني أن مقالات هذا الكتاب تأتي في إطار الجهودالمسهمة في حماية “ذاكرتنا وهويتنا الوطنية من عادياتالمتربصين بها” (ص 6). أما بشأن إصرار ونضالية الحركةالثقافية الوطنية الليبية فيقول عن الأصوات التي حضرت فيهذا الكتاب أنها “أصوات ورموز ثقافية برزت وأبدعت، رغمتلك العهود، وليس بفضلها” (ص 6)، فهي “الصوت الآخرالنقدي أو الرافض أو المتمرد أو الثوري، ولذا فهي لا تشكلرصيدا لتلك العهود، بل رصيدا ثمينا لثقافة شعبنا الوطنية” (ص 6).
هذا على صعيد الرؤية الفلسفية الناظمة، أما على صعيدالمنهج فإن الفقيه يطوق (بالمعنيين: الودي والعسكري) المواضيع التي يعالجها بإحكام متفحصا إياها من جميعجوانبها. وحين يكون السياق ملائما يفتح الفقيه مقاله المحكمعرضا وحجة على تساؤلات محفزة على التفكير، مثلما هوالأمر في مقاله “جدلية الثقافي والسياسي (قراءة فيالسياقين العربي والليبي)” (ص 109) الذي ينهيه بالتساؤلحول ما إذا كانت ظاهرة غلبة توجه مسيرة الثقافة الليبية منذالفترة الاستعمارية حتى الوقت الراهن “نحو التاريخ والتراثقصد التأصيل والتأسيس، كان استجابة لحاجة ملحةطرحها الواقع والظرف التاريخي الخاص؟ أم أنـ[ـه]… يعكس… حالة الضعف والهشاشة التي تنطوي عليها البنيةالثقافية الليبية” (ص 119) ما يضطرها إلى “التحصنبالتاريخ والتراث في مواجهة رياح الطمس والإلغاء والقمعوالمنع والمصادرة؟ أم أن واقع الحال يقبل الجمع بين هذاالافتراض وذاك؟” (ص 119). فكأني بالمؤلف هنا، وقد أحسبمتانة عرض موضوعه وجلاء تحليله وما ساقه من حجج،شاء أن يحرر مقاله وقارئه من إسار هذه المتانة وهذا الجلاء،أو على الأقل يخفف من هيمنة هذا الإسار، متيحا لمقالهالانفتاح ولقارئه براحا حرا من التفكير.
هناك نقطة منهجية أخرى، هي الطابع النقدي المزدوج،بالذات إزاء ما يناقشه من كتب وأطروحات لآخرين، بحيث لايكتفي بإبراز ما يراه في الأعمال التي يناقشها من عافيةوسلامة، وإنما يبرز أيضا ما يراه فيها من خلل واعتوار. ففي مناقشته الكتاب المهم للدكتور. على عبد اللطيف حميدة(الذي تربطه به علاقة شخصية وثيقة، إذ هو زميل دراسةجامعية وصديق مقرب) “المجتمع والدولة والاستعمار فيليبيا، دراسة في الأصول الاجتماعية والاقتصادية والثقافيةلحركات وسياسات التواطؤ ومقاومة الاستعمار 1830-1932” يطرح في نهاية دراسة معمقة تبرز أصالة معالجة د. حميدة لموضوعه وتعمقه فيه وتحليلاته الموضوعية، بعضالسلبيات التي شابت التناول. أهم هذه النقاط، في تقديري،نقطتان. الأولى منهجية تتعلق بالنقد أحادي الاتجاه. إذ يرىالفقيه أن تركيز د. حميدة “على تفادي الخلل المنهجي فيالنظريات المتمركزة على الذات الأوربية، التي تجنح إلىتفسير حركات المجتمعات في العالم الثالث بإرجاعها إلىعوامل خارجية، قد أفضى بمؤلفنا إلى شيء من الغلو فيالضفة المقابلة، أي إرجاع الأمر دائما إلى العوامل الداخلية،دون إيلاء عناية كافية – على الصعيد المنهجي والتأصيلي- بدور العوامل الخارجية” (ص 181). فالدكتور حميدة يعد(ص 181)، مثلا، عوامل تأثيرات السياسة العثمانيةالجديدة، ونشاط الشركات التجارية والرأسمالية في المنطقة،وجمع وكبس وتصدير نبات الحلفا من هذه المنطقة إلىإنغلترا، عوامل داخلية تخص المجتمع الليبي كانت وراءالدفع باتجاه الانتقال من نمط الاقتصاد الريعي إلىالعلاقات الرأسمالية، في منطقة طرابلس ومحيطها، خلالالنصف الثاني من القرن التاسع عشر. في حين أنهاعوامل، خاصة ما تعلق منها بالشركات الأجنبية، شديدةالوضوح في خارجيتها.
النقطة الثانية التي يأخذها الفقيه على د. حميدة في كتابههذا نقطة موضوعية تتعلق بعدم تسمية د. حميدة الأموربأسمائها حين تعلق الأمر بالتناقضات والاختلافات التينشأت في منطقة الجبل الغربي سنة 1915وتطورت إلىاحتراب أهلي سنة 1920 “حيث آثر المؤلف التسمية المذهبيةلأطراف الصراع، أي المالكية والأباضية، متجاهلا الجذرالإثني لهذا الاختلاف المذهبي” (ص 181).
ختاما، هذا كتاب بالغ الأهمية في تاريخ ثقافتنا الوطنيةالتحررية، أجرؤ على القول باعتباره كتابا عمدة في سياقههذا، جاء في وقته، ومن المؤكد أنه سيثير اهتمام وإعجابالمثقفين الليبيين المتابعين الجادين، ويستقبله مثقفو جيلنابسعادة غامرة.
* محمد الفقيه صالح، في الثقافة الليبية المعاصرة، ملامحوكتابعات، دار الرواد، طرابلس- ليبيا، 2016، وأرقامالصفحات الواردة في المتن تشير إلى هذه الطبعة.