إسلام ضد إسلام
سالم العوكلي
في شهر مايو 2011 نُشرت مقالة في جريدة ميادين (احذروا الفاشية الثالثة) أحذر فيها من فاشية الإسلام السياسي وجماعة الإخوان المسلمين خصوصا، بعد فاشية موسيليني وفاشية القذافي، وخضتُ حوارا جانبيا مع بعض أصدقائي الذين اعتبروا المقالة فيها نوع من الإقصاء، وتتناقض مع المبدأ الديمقراطي، وميزة الديمقراطية أنها تستوعب الجميع، وهذا كلام صحيح نظريا، ويناسب من يفكر في الأمر بعقل سياسي، وكان ردّي أني لستُ سياسيا وأحسب نفسي على من يُسمون مثقفين، وفكرة أن تسييس الدين خطر على أي مجتمع أو دولة هي مبدأ ثقافي يؤيده إلى حد كبير علم التاريخ الذي يشهد على خطورة هذا التوجه الذي يقود حتما صوب الفاشية. تسييس الدين أو العرق ضد مبدأ التعايش الإنساني ولأنه ضده لا يمكن أن يفرض إلا بالقوة والعنف والترهيب وتأجيج حمى التعصب الأعمى التي أدت عبر التاريخ إلى حروب الإبادة والمقابر الجماعية وأفران حرق البشر. وهو نوع من التوظيف يبدأ بخطابات هادئة ومعتدلة عن الهوية سرعان ما تتحول إلى تطرف وعنف وحشي حين يملك دعاتها القوة الكافية.
وإدماج مثل هذا التعصب المرضي في السياسة خطر على المجتمع وعلى العالم، ولا يمكن أن تقوم في ظله دولة طبيعية، ما بالك دولة ديمقراطية.
الصراع في ليبيا بغض النظر عن كل التفاصيل هو صراع في جوهره بين قوى الإسلام السياسي وبين القوى الاجتماعية الأخرى، تسمى أحيانا قوى وطنية، لكنها تأتي تحت عنوان الإسلام الاجتماعي، وحين حكمت الدولة الدينية السنوسية ليبيا، استطاعت ببراعة أن تبعد توجهها الديني عن إدارة الدولة، وظل حضورها الاجتماعي قويا لدرجة اعتبر المؤسس إدريس السنوسي رمزا روحيا، كان يحلف به الكثيرون كولي صالح، لكن الدولة كانت خاضعة لقوانين حديثة ودستور يعد مهما في وقته، أهم ما يكفله في باب الحريات (حرية الاعتقاد) التي خلت منها معظم الدساتير العربية في ذلك الوقت. ونحن نعرف كيف ضغطت تيارات الإسلام السياسي داخل هيأة إعداد الدستور الليبي الجديد لحذف هذه المادة، وللتأكيد على أن الشريعة هي مصدر التشريع. وهي دسائس داخل الدستور تنحو به تجاه جوهر (الدولة الدينية) التي سيطرت على أوروبا قرونا سُمّيت قرون الظلام، والدولة الدينية هي نقيض الدولة المدنية وليس كما يُروج أن نقيضها الدولة العسكرية، فالدولة المدنية قد يكون على رأسها عسكري أو مدني وما يحدد هويتها الدستور والقوانين التي تتبناها، مثلما الدولة المستبدة قد يكون على رأسها عسكري أو مدني. وبالتالي فإن العلمانية هي أرضية الدولة المدنية.
لا يمكن أن تنجح الديمقراطية إلا فوق أرضية علمانية، وإذا كان هذا الأمر لا يناسبنا علينا أن نبحث عن مخارج أخرى لمأزقنا السياسي دون أن نعهر الديمقراطية ونحن نتحدث عنها بقاموس لاهوتي.
تشهد ليبيا صراعا يصب في هذه العناوين، ومن الممكن اختزاله، في الصراع بين الإسلام السياسي والإسلام الاجتماعي، وهو خطاب يظهر كثيرا في معظم الحوارات وإن بأشكال مختلفة، ومن الممكن أن أستعير عنوان كتاب النيهوم بتصرف “إسلام ضد إسلام”، بحذف “أل” التعريف من إسلام الثانية، خصوصا ونحن في سياق مرتبك أصبح فيه تعريف الإسلام صعبا أمام عشرات التيارات التي تستخدمه دون أن تتفق، بل وتتحارب عبر تعريفاتها المختلفة لماهية الإسلام.
هذا الصراع أفضى سلميا إلى خسارة ممثلي الإسلام السياسي لثلاث انتخابات حرة في ليبيا، رغم ما يتمتعون به من إمكانات ودعم وتنظيم، وما جعلهم يخسرون ليس إمكانات وتنظيم لدى طرف أو أطراف أخرى منافسة، لكن قوة الإسلام الاجتماعي العفوية وغير المنظمة التي ترى في استخدام الدين في السياسة نوعا من المتاجرة ومن احتقار الناخب الذي يعتقد دون شك أنه مسلم ومتدين، وما يسعى إليه في الواقع هو حق المواطنة كابتكار للحداثة السياسية مكفر من قبل هؤلاء المُصرين على تسمية المواطن عبدا والحاكم ولي أمر مُعيّن من قبل الله تلزم طاعته العمياء.
إعلان وقف الحرب يُشكل دائما وفي كل وقت بشارة لملايين الأبرياء الذين يعانون من الحروب، لكنه لا يشكل بشارة لأمراء الحرب وميليشياتها التي تدير أعمالها عبرها وتضمن النجاة من سلطة القانون والعقاب عبر الحرب التي يجب أن لا تنتهي طالما اقتصادها النشط يُفرّخ كل يوم مليونير أو أكثر.
يقول التاريخ إن الحروب ليست غاية في حدِّ ذاتها لكن لابد أن تفضي في النهاية إلى التفاوض وتحقيق النتائج التي قامت من أجلها، بمعنى أن تُحقق مطالب الناخبين الذين لم يصوتوا لثلاث مرات لممثلي الإسلام السياسي، ويعني هذا تفكيك الميليشيات التي فرضت نفسها في المشهد عن طريق السلاح وإلا سنعود للمربع الأول وتستمر الدماء في النزف.
لابد أن يخرج جماعة الإسلام السياسي من المشهد في أي حوار أو تفاوض كي يمكن بناء الدولة، وأقول ذلك جازما لسببين:
الأول: لأنهم خسروا ثلاث انتخابات في ليبيا، ثم قوضوا المسار الديمقراطي بالسلاح، وفرضوا أنفسهم في المشهد عبر الميليشيات المسلحة، وعبر دعم الدول الداعمة لهذا الجناح حتى وإن كان الناخبون الوطنيون ضده.
الثاني: لأن طبيعة من يمثلون الإسلام السياسي ضد الدولة المدنية وضد الديمقراطية وضد مفاهيم (الوطن) أو (القطر) وهذا لا يناسب ليبيا ولا العصر الحديث.
فخطورة منهج الإسلام السياسي تكمن في قلب المفاهيم الوطنية، فهم لا يعتقدون في مفاهيم الوطن أو الدولة القطرية أو الحدود، أو النسيج الاجتماعي داخل حدود سياسية معينة، فالمسلم أينما كان هو مواطنهم وحدود الدولة هي حدود الأمة. وبالتالي فهم متسقون مع أنفسهم حين لا يعتبرون دعوتهم لدولة أخرى مسلمة يحمل حكامها المنهج نفسه خيانة، والخيانة بالنسبة لهم هي التحالف مع جيش مهمته أن يحمي حدود القطر، أو التحالف مع قوة وطنية معنية بالوطن الصغير، أو مع قوى قومية تدرج أديانا أخرى يعتبرونها كافرة ضمن هذه الحدود القومية، وهم متسقون مع ذواتهم ومنهجهم المعلن عنه حين يعتبرون أردوغان ولي أمرهم الواجبة طاعته، وأي ليبي لا يؤمن بهذا فهو عدو للمشروع، وفتاوى الغرياني التي كانت تدعو للجهاد في بنغازي بدل مقاتلة داعش في سرت دليل على هذا التوجه، وهو توجه عميق لديهم وأصيل وسيظل دائما في قلب أي تسوية سياسية تعترف بهم، وسيظلون قنابل موقوتة تهدد استقرار الدولة من داخلها.
لذلك وبسبب ما تحمله هذه العقيدة من مخاطر على سِلم المجتمع وأمنه ومستقبله ووحدته، لا بد أن يحوي الدستور حظر الأحزاب ذات المنشأ الديني، وإلا ستتكرر مرارا الحروب وإعلانات وقف إطلاق النار وحروب الميليشيات كما حدث ويحدث في لبنان والعراق منذ سنين طويلة، وفي ظل دساتير تحمل ألغام المذهبية والدين والمُسيّس في داخلها.
لذلك فإن مؤتمر برلين إذا أدمج الأجسام السياسية الممثلة لهذا التيار في أي تسوية فلن ينجح في حل الأزمة الليبية؛ بل في حقنها بمخدر مؤقت، لأنه باختصار لا يمكن أن يتعايش الليبيون مع هذا التيار لأسباب بنيوية في المجتمع، وغسان سلامة كمثقف ومفكر يعرف ذلك جيدا وليس كمبعوث أممي تلزمه المهمة بالتخلي عن قناعاته الشخصية.