إدارة التوحش في باليرمو
فرج عبدالسلام
في باليرمو حطّ قطار “التوحش الليبي” في محطةٍ نقدّرُ ممّا أمامنا من معطيات أنها لن تكون الأخيرة، رغم كل آمال وطموحات غالبية الليبيين بضرورة إنهاء هذه الرحلة العبثية المضنية لهذا القطار الجهنمي، الذي وجدوا أنفسهم من ركّابه بغير مشيئتهم.
“إدارة التوحش” كان عنوان كتاب أحدثَ ضجةً في حينه، وتعلق بشكل خاص بشرح فكر واستراتيجية تنظيم قاعدة الجهاد، وتزامن صدوره مع تحوّلات كبرى شهدتها الحركة السلفية الجهادية، بعد مرحلة سبتمبر 2001.
و”التوحش” تعبيرٌ قُصدت به تلك الحالةُ من الفوضى التي تدبُّ في أوصال دولة ما، أو منطقة بعينها، إذا ما زالت عنها قبضة السلطة الحاكمة، ورأى المؤلف أن هذه الحالة من الفوضى ستكون متوحشة وسيعاني منها السكان المحليون، وإن كان الكاتب الجهادي السلفي ينصحُ تنظيم القاعدة – التي ستحل محل السلطات الحاكمة تمهيداً لإقامة الدولة الإسلامية المزعومة، بأنْ تُحسّن إدارة التوحش من أفعالها إلى أن تستقر لها الأمور في النهاية. فتعريف “التوحش” واضح إذاً، لا لبس فيه، ولا في الظروف التي ينشأ فيها في دولة ما.
بإسقاط هذه النظرية على حالنا، يبدو أنّ “التوحش الليبي” الذي حل بالبلاد الليبية، عصيٌّ على أية إدارةٍ مهما كان نوعها، فقد انفلت الزمامُ وخرج المارد القبيح من القمقم، وتبدو السيطرة عليه من ضروب الخيال..
فمنذ انطلاق ثورة فبراير في العام 2011 لإسقاط النظام الاستبدادي المتخلف، والبلاد على “كف عفريت”، كما يذهب القولُ المشهور، والليبيون يبحثون عن بارقة أملٍ علّها تعيدُ إلى القوم رشدهم… لكن لن نذهب بعيدا، إذا ما سلّمنا أنّ جذور “التوحش الليبي” تعود إلى أزيد من عقود أربع مضت، انفلت فيها زمام العقل الليبي، برعايةٍ وتشجيع من نظامٍ غِرّ وجدَ الأرض مهيأة لزرع بذور الفتنة والخراب في النفوس التي صارت أكثر استعدادا لممارسة التوحش، دون النظر في العواقب على البلاد والعباد، وهو ما نراه في زمننا هذا. وبطبيعة الحال لم يكن الساسة والمسؤولون ومن يسمّون بالنخب على مختلف مشاربهم وخطاباتهم استثناءً هنا، بل في الحقيقة، صاروا هم قادة هذا التوحش الليبي ومعبرين عنه بامتياز. لكن حتى إن سلّمنا بهذه الأسباب، وعرفنا مكمن الداء، فهل سيقودنا ذلك إلى حلّ ما؟ إذ يبدو لنا في كل مرة، وبعد كل مؤتمر يُفترض أنه للمّ الشمل طبعا، أنه ما يزال في أنفسنا شيء من مرارة لا نعرف كنهها، وهي الإمعان في الخلاف وتبشيع وشيطنة الآخرين إلى أن يحيق بنا الخراب ويغرق الجميع…
يقول وليام لورنس، أستاذ العلاقات الخارجية في جامعة جورج واشنطن، والدبلوماسي السابق في ليبيا بالحرف خلال لقاء معه: الليبيون يموتون، الليبيون جوعى، وهناك كارثة إنسانية ستطال مليوني شخص على الأقل. كل هذا والليبيون يناقشون قضايا اقتصادية، وأخرى تتعلق بتقاسم سلطة وثروة، وقضايا بعيدة عن حلول سياسية حقيقية.
يظل السؤال حول إمكانية الكبار الحاضرين من الداخل الليبي والرعاة من المجتمع الدولي على ترويض التوحش الليبي في محطة باليرمو… وعن ذلك يقول فريدريك ويهري، خبير الشؤون الليبية في مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي في واشنطن “في باليرمو هناك الكثير من الادعاءات الفارغة، والكثير من الأعمال المسرحية، لكن يبقى أن نرى كيف سيؤثر هذا المؤتمر على الأرض في ليبيا.”
لكن تبقى أيضا حكايةٌ صغيرةٌ في ظاهرها، ولكنها عميقة في معانيها، تُعلِّمنا أنّ قصة ليبيا ليست محتكرة على هؤلاء الذين يسمّون أنفسهم بالفرقاء السياسيين وأمراء الحرب العابثين بحاضر الليبيين ومستقبلهم، وإنما هناك جوانب أخرى تشكّل غالبية الوطن الليبي. وتقول القصة إنه بعد انفضاض احتفالية شاعر ليبيا وذهاب فرسان الشعر إلى حال سبيلهم، لبّوا دعوة من الفائز باللقب، واجتمع المشاركون في حلقات البث المباشر من كافة المناطق الليبية في زليطن، معبّرين عن الروابط الحقيقية التي تجمع الليبيين بعيدا عن أدعياء السياسة وعن المتوحشين.. هذه حقا بادرة أملٍ تبشّر بخير وتروى النفوس العطشى إلى ليبيا التي نعرفها وننشدها، وليذهب أدعياء الريادة وأمراء الحرب ليديروا توحشهم في باليرمو أو حتى في جزر واق الواق.