أيّام في العزلة
سالم الهمالي
(1)
ما كنت أعرف أن هناك عزلة أخرى داخل العزل، فمكالمة هاتفية غيرت حياتي رأسا على عقب، مرة أخرى وأخرى، فهي تتقلب لأسابيع فما عدت أدري أين بدأت أو سأنتهي.
انتشار الجائحة الكورونية غيَّر حياتي، فأصبحت أُطبق عزل ذاتي، لا أصافح أحدا ولا أقترب من أحد، بل التزمت غرفتي بالبيت، أنام وأقرأ وأكتب وأتناول طعامي وأقضي كل شؤون حياتي، وحيدا لا أرى إلا شاشة الآي باد والهاتف وما يمكن أن أراه من النافذة، ولا أسمع سوى طرقات الباب تنبئني بأن هناك سفرة أمامه فيها طعام أو شراب.
لا شك أنكم تعرفون كل ذلك، بل إن بعضكم يعيشه كذلك، لكن هناك شيء آخر قد لا تعرفونه، وهو ما سأحدثكم عنه.
البداية كانت بأول يوم علمت فيه بأن حالة مصابة بالوباء دخلت المستشفى، فرغم علمي بكل الاستعدادات بخصوصه وطريقة التعامل معه إلا أن الأمر صدمني فجأة وأنا واقف أنتظر قهوتي المعتادة من كوستا، فمحدثي هو من استقبل الحالة وقام بالواجب … وما إن استرسل في الحديث حتى وجدت قدماي تتقاعسان إلى الوراء بطريقة لا إرادية، أُحدثه وأحاول تذكّر هل صافحته وأحسب بالسنتمتر المسافة الأقصر التي كانت بيننا. … أهلًا كورونا !
كون المريض كان في تيناريف وفي نفس الفندق الذي انتشر فيه الوباء، وبحرارة 39 درجة مئوية مع كحة والتهاب في الصدر، يمكن القول إن الإصابة (ضربة بالشربة).
لا أدري كيف يقولون إن الفيروس (كوفيد 19 ) لا يُرى بالعين المجردة، ففي تلك اللحظة تهيأ لي أن أرى مئات بل عشرات الآلاف تتطاير أمامي، والأدهى أن بعضها حط رحاله في قميصي ووجهي وشعري، وأخشى أن منهم من اختلس طريقه إلى أنفي وداخل بلعومي.
القصة لم تعد طرفة مثيرة أو نكتة سخيفة، بل حقيقة ماثلة، تلاحقني وأنا أركب درجات السلم، حيث التقيت أحد زملائي استشاري في العناية المركزة، سألني: يبدو أنك داهش؟!
التقطت أنفاسي محاولا نفي ما لاحظه، وإظهار أن الأمر عادي، في حين أن ما يشغلني آنذاك هو ذلك الهجوم الكاسح من الفيروس المجنح … ما ذكره عن تلك الحالة بقسم العناية المركزة وهو يعاني تحت أجهزة التنفس الصناعي زاد من سرعة أنفاسي … ودَّعني: رد بالك من نفسك !
تركت مكتبي ولا وجود لحالة واحدة في المستشفى وأعود إليه بعد أقل من نصف ساعة وهناك حالتان، إحداهما تصارع الموت في العناية. جلست على الكرسي أعد أنفاسي في الدقيقة ويدي اليمنى تجس النبض، 76 ..، لا أعد مرة أخرى .. 86…، أعد مرة ثالثة 80 فِي الدقيقة.. الحمد لله.
تفاجأت عند وصولي البيت بسؤال من زوجتي: هل صحيح أن هناك حالات وباء بالمستشفى، وأن هناك وفيات؟
أنكرت في البداية، تعودت أن لا أنقل أي شيء من حياتي في العمل إلى البيت، خصوصا حالات المرضى، زاد إلحاحها فمن تحدث معها حصل على معلومات عن طريق من يعمل بالمستشفى، بل أضافت إنهم قالوا أن هناك ثلاث حالات وفاة من الفيروس؟!
نسيت أن أقول كل ذلك الحوار كان بين واقف وجالس، والمسافة أمتار، تغيرت الحياة فجأة، فما عاد يجمعنا ذلك الكرسي. كنت متأكدا أن ما وصلها من أخبار هو محض إشاعة، لذلك شرحت شيئا عن المرض وذكرت بثقة أنه لا وجود لأي حالات متوفاة بالمستشفى.
المفارقة المهمة، أن الحالة التي أتت من ذلك الفندق الموبوء بالفيروس تماثلت للشفاء بسرعة وأثبتت التحاليل أن السبب هو فيروس سارز (أس 1 إن 1) وليس كوفيد 19. أما الأهم، فهي مقدار المعلومات المغلوطة والإشاعات التي ستصاحب انتشار هذا الوباء، فلا حقيقة على الإطلاق لوجود حالات وفاة آنذاك.
ركبت إلى غرفتي، وبدأت أول أيّام العزلة التي أحدثكم عنها.