أين البداية في الحالة السورية؟
طيب تيزيني
إن ما بدأ يحدث في الحالة السورية، إنما هو وضعية مركبة لا يصح النظر إليها دون ضبط تاريخي، نأتيه من حيث البنية الذاتية والوظيفة المجتمعية والاحتمالات المفتوحة المستقبلية، ومن ثم نجد أنفسنا أمام مهمات ثلاث تلتقي الواحدة منها مع الأخريَين. ومن شأن هذا أن ينتج ثلاثية لا يمكن ضبطها، إلا على سبيل التحاور، بما يجعلنا في حالة متحركة أولاً، وعلى نحو ينتج قراءة الحدث في ضوء الاثنين ثانياً، وبكيفية تسمح بقراءة الـ«الموضوع» في سياقاته الثلاثة معاً. وهذا يتيح الإقدام باتجاه الأحداث الثلاثة من موقع توالد الراهن من الماضي والمستقبل.
وفي ضوء ذلك مجتمعاً ومفرداً، يمكن أن نضع أيدينا على إجابة عن السؤال الذي يتصدر هذه المقالة وكتعبير عن ذلك يتسنى لنا ضبطه من خلال ما نشرنا هنا في صحيفة «الاتحاد» وفي غيرها من الإعلام العربي. فقد انطلقنا في كتاباتنا من «السر الأعظم» المتمثل بـ«الإصلاح الوطني» في الحقل السوري، كما في حقول أخرى من العالم العربي. لقد مثل هذا «الإصلاح» ضرورة كبرى في سورية منذ بداية القرن الحادي والعشرين، مع الإشارة إلى أن إنجاز ذلك الإصلاح جسّد في التاريخ السوري الحديث، حالة متعاظمة دون أن يبلغ الأمر حالة الهيجان.
وقد راح الأمر يتعاظم ويظهر جلياً مع ظهور الدعوات إلى الإصلاح في القطاعات المختلفة، بحيث راحت مطالب الجمهور، بكل عقلانية وسلمية وحكمة، بل إن تحقيق هذا الأمر أصبح بمثابة استجابة ذات طابع وجودي حاسم: إما أن تستجيبوا لهذه الضرورة، ويكون ذلك بمثابة رهان خلاص، وإما أن تهدموا المعبد على أصحابه. لقد جاء الجواب مزلزلاً، والقصة تتوالى في اتجاهات التفكيك والتدمير. فقد رحنا نقرأ هذه الصفحة الدامية، لنتبين أن إيقونة التاريخ وقعت في فخ القتل حتى الثمالة. وإذا كنا نعلم أن ضحايا التاريخ إنما هم ضحايا صامتة، فإننا نعلم أنه لا شيء يذهب هباء. وهنا نشير إلى العلاّمة ابن خلدون والفيلسوف الألماني هيجل، اللذين اكتشفا أن الأمور ليست بنهاياتها المعْنية فحسب، وإنما هي كذلك ثمار التاريخ العظيم في مواجهة «زعران التاريخ»! ها هنا تبرز علامات فارقة تفصح عنها وتدعو إلى لمْلمة الموقف باتجاه تخطيه وإعادة بنائه.
وكهذا تعود روح التاريخ لتتجلى في بعده الإنساني المكافح. وهذا ما يتجلى فيما يحدث في سورية وفي سياق مواجهتها لتجار الحروب. وهذا بدوره يتجلى في أحداث حلب الهائلة، التي لها دلالة في «فلسفة التاريخ». فعلى هذا المستوى تبرز مقولتنا «روح الشعب وروح الأمة»، وعلى رغم تآكل هاتين المقولتين على أيدي صنّاع الحروب والتلفيق الأيديولوجي، نراهما الآن وقد أخذتا في الازدهار والتحول إلى الفعل السياسي والأخلاقي على نحو غير مسبوق. وفي هذا وذاك نمسك بالخيط الرفيع، الذي يقودنا إلى ما يفعله شعب حلب من ملاحم تذكرنا بما حدث في سياق الثورة الفرنسية 1789 والأخرى التي قادها شعب مدينة موسكو عام 1917 ضد النازية الهتلرية.
أما ما يراه آخرون من أن التحولات التي تطرأ على المجتمعات، محكومة بالتحرك في الحقل السياسي والاستراتيجيات السياسية، فإن المسألة محكومة بالفعل المجتمعي الشعبي بقدر ما يأتي ذلك ملتحماً مع التعامل مع هذا الحقل، فكلاهما -من ثم- منوط بالآخر. ومن هذا الموقع نستطيع مقاربة المسألة أولياً، حيث تنتج جدلية القاتل والقتيل، القاتل الذي يرغب في استنفاد قدرته على إحكام قبضته في إنهاء القتيل من طرف، والقتيل الذي لا يجد مخرجاً له سوى في الموت دفاعاً عن كرامته الملوثة بالدماء، ما يجعل الموقفين الاثنين على حافة الانهيار.
لقد بدأت سورية تعيش حالة كان تجاوزها عام 2011 أمراً محتملاً، بل قاطعاً القيام بعملية شاملة تبدأ بالجزئية أو ببعضها، ليقترب أجزاؤها بعضها من بعض، ويكون الانتصار معادلاً لتنظيم الفرص، فرص الانتصار، وللحيلولة دون الانهزام توظف كل الطاقات والإمكانات في خدمة القضية المعنية. أما أن تكون سورية قد هدرت الفرصة، بل الفرص، لتحقيق نصر تاريخي، فإن في هذا دروساً لا تخرج جميعها عن النصر أو القبر. بل من أجل أن يكون «القبر» قابلاً لأن يقود إلى الانبعاث.
لقد نجحت ثورة الفرنسيين بعد مئة عام، وتتوجت مدينة ستالينغراد بنصر مؤزر حين سُحقت النازية الإجرامية، وانتصرت الشعوب في نهاية المطاف، مع الإشارة إلى أن الأمل في إنجاز نصر على الظلامية والجريمة، كما على النزوع الاستعماري الاحتلالي والتدخل الخارجي في سورية وما يتبعهما، إنما هو أمر من أمور التاريخ في انغلاقه كما في انفتاحه. إنه منوط بالشعب السوري وبقدرة أبنائه على امتلاك إرادة الفعل التاريخي.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
صحيفة “الاتحاد” الإماراتية