أولاد أحمد في غيابه
حسونة المصباحي
ذاك اليوم، يوم السادس من أبريل 2016، لم أتمكن من الإقتراب بما يكفي لكي أراهم ينزلونك إلى مأواك الأخير. كان هناك لغط كثير، وكلمات باهتة لا علاقة لها بتلك الكلمات التي كنت تتقن إجتراحها من لغة قتلتها الفتاوي الصفراء،وصادرها فقهاء الظلام فما عادت تنطق إلا بما يعادي الحياة والحب والشعر في معناه الأصيل. وكانت هناك خطب ديماغوجية وجدانوفية يلقيها من لفظتهم زوابع وتوابع “الربيع العربي”. وكان غبار ربيع بلا مطر ينشر أكاذيب بلا حساب . لذا تراجعت وكأني أطلّ على هاوية بلا قرار، ومشيت مُترنّحا، ذاهلا وبي إحساس عنيد أن الميّت الذي جاءت جموع غفيرة لتوديعه الوداع الأخير، ليس أنت وإنما آخر لا أعرفه ولا يعرفني. وأنا أقترب من باب الخروج، اصطدمت بفايزة التي كانت هائمة بين القبور وفي عينيها العسليّتيبن سؤال كأنه جرح ينزف دما غزيرا: هل سيغيب حقّا وإلى الأبد؟ وسمعتها تقول: آه! حقا أفريل “هو أقسى الشهور”! لم أجبها، وما كنت قادرا على التواصل معها في لحظة كانت فيها لظنون والشكوك تنسف اليقين وتنفيه. على عجلة عدت إلى الحمامات لأجد نفسي في مطعم “كوندور” جالسا أمام نفس الطاولة التي تعوّدنا أن نجلس حولها كلما زوتني هناك. وفي لحظة ما رأيتك أمامي حزينا غاضبا من موت إختطفك قبل الأوان، وحَرَمَك من مُتْعة مواصلة صولاتك وجولاتك دفاعا عن الحرية وعن الكرامة وعن الشعر، وعن بلاد زحف عليها جراد الخراب والدمار فباتت مهددة في وجودها. وقد تسلب منها هويتها المتوسطية ، ويزيّف تاريخها فتغرق في ظلمات أبدية، وتصبح شبيهة بخربة هائلة الإتساع يعشّش فيها البوم والخفافيش وغربان الشؤم. ثمّ إختفيت من جديد فعدت أواسي نفسي بأن غيابك لن يطول، وأنك لن تلبث أن تطلّ علينا من جديد بجسدك الأسمر الهزيل، وبغضبك الساطع، وبكلماتك النارية الحارقة، وبلعناتك النازلة كالصواعق، وببهجتك التي نحتاجها خصوصا في أوقات العبوس والشدة واليأس، وبهيجانك الجميل الذي يخيف أعتى الطغاة، وأشرس الظالمين . نعم… بهذا واسيت نفسي في الليلة الأولى لفراقك. ولا زلت ممعنا في هذه المواساة إلى حد هذه الساعة لأنني لا أقدر على العيش من دون أن أتوهم أنك لا زلت معنا، وأنك لا زلت قادرا على رفع صوتك عاليا لتعلن أنك لن تتخلى عنّا وعن البلاد أبدا. وصدقني أنك رافقتني في العديد من أسفاري. فكنت معي في ميونيخ في ذلك البار المعتم الصغير قرب”مارين بلاتز” الذي تديره بافارية بصدر عارم وأرداف مثيرة وضحكة ترن ككأس يتكسر كما يقول ايلوار. معا شربنا البيرة البيضاء وضحكنا، وكتبت أنت كلمات على ورقة وسخة ثم ألقيتها في سلة الفضلات قائلا: البيرة الآن أكثر بلاغة وحلاوة من الشعر ومن النثر! وفي الليل، ذهبنا إلى “التيركنهوف” بحيّ “شاوبينغ”. خلال السهرة التي إمتدت إلى ساعة متأخرة من الليل، لم تنقطع عن التغزل بالجرمانيات الشقراوات. أردت إستفزازك كعادتي، فقلت لك: ولكن هل هنّ أجمل من حور العين؟ أطلقت ضحكة ساخرة لفتت إنتباه الزبائن، وقلت لي: دعك من أوهام العامّة يا صديقي… ليس هناك غير ظلمة لا متناهية، وصمت أبدي… ولا جحيم يعلو على الجحيم العربي! قبل أن تختفي، حدثتك عن الشاعرة النمساوية، إنغبورغ باخمان التي ماتت مُحْترقة في شقتها بروما. بإلحاح منك، قرأت لك مقطعا من إحدى قصائدها: “أنت كلّ شيء بالنسبة لي. وكم أنا راغبة في أن أكون لك!أودّ أن أتبعك ، بعد أن تكون قد متُّ، وأن ألتفت إليك، حتى ولو خاطرت بأن أتحجّر، أودّ أن أرنّ، أن أثير مشاعر ما تبقّى من الحيوانات حدّ أن تسيل دموعها، وأن أدفع الصخرة إلى أن تصبح زهرة، وأن أجعل الغصن يفوح بالعطر” قلت لي: هذه تليق بي هناك! ثم ذبت في ضوء النهار الطالع… وكنت معي في مراكش…كنا نتجول في حديقة بيت الصديق عثمان العمير لما لدغني كلبه”تويتر” ، ومزق سروالي القطيفة الأزرق. رحت تتلوى من الضحك قائلا لي:آه يا حسّونة…مهما فعلت فلن تتمكن أبدا من التخلص من خوفك البدوي من الكلاب، ومهما تحضرت، وتمدنت، فلن تمنع الكلاب من معاملتك كبدويّ ضال! وكنت معي في باريس. ذات ليلة دافئة تجولنا في حيّ “بال فيل” الذي تكثر فيه محلات بيع اللحم الحلال، والكلمات البذيئة التي يطلقها المهاجرون التونسيون بلا حساب. تعشينا في مطعم يهودي مستمعين إلى أغاني حبيبة مسيكة، والهادي الجويني، وراؤول جورنو. سألتني: ما أحوال البلاد؟ قلت لك: لا تنغّص علينا سهرتنا فأحوالها تزداد سوءا يوما بعد يوم! قلت لي: فليكن… المهم أننا حرّكنا عجلة تاريخ جامد منذ قرون… لم أشأ أن أجادلك في الأمر فنحن كنّا على طرفي نقيض في ما سمي ب”الربيع العربي”.. ظللت صامتا مثلي،ثم سألتني ثانية: وماذا عني؟ قلت لك: لقد إزددت شهرة ونجومية… وبعض الأحزاب الجديدة جعلت من قصيدتك:أحب البلاد” نشيدها الوطني… والذين حرموك من كلّ الجوائز إستحدثوا جائزة باسمك. والشعراء الذين كان يناصبونك العداء، ويتآمرون عليك في الخفاء وفي والعلن باتوا بزعمون أنهم كانوا من أصدقائك الخلص، وبالتالي هو الأجدر بوراثتك! قلت لي: ليس هذا بالأمر الغريب… ففي بلادنا يلعن الأحياء، ويمجد الأموات! بعد العشاء، رافقتني إلى الفندق القريب من ساحة”الروبيبليك”، ثم أختفيت من دون أن تودعني. في أماكن كثيرة كنت معي. وفي كل لقاء، كنا نتجادل حول الشعر وحول السياسة، وحول مواضيع أخرى. أحيانا يحتدم النقاش بيننا فنتخاصم ونتبادل الشتائم ونفترق بلا تحية وبلا سلام كما كان حالنا عندما كنت لا تزال في عالم الأحياء. لكن في لقاء آخر، في تونس، أو في خارجها، تنقشع الغمامة، وتعود الألفة، ويشرق الود بيننا… فلا أنت ولا انا يسمح للقلب بأن يتلطخ بالحقد والبغضاء. وصدقاتنا تأسست على الإختلاف وليس على الوفاق الكاذب والمسموم. وكل واحد منا ظلّ كما هو. فما غيّر وما بدّل وما خان! مرة أخرى، لك يا صديقي هذا المقطع من قصيدة لإنغبورغ باخمان:” لا أدري ما الذي تنتظره مني. للنشيد الذي بإمكانك أن تصدح به لكسب معركة مّا، أنا لا أساوي أيّ شيء. أمام المذبح، أنا أنسحب. أنا لست قاضي مصالحات. كلّ القضايا تتركني باردا. لكن ليس أنت. كل شيء إلاّ أنت”.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نقلا عن صحيفة “إيلاف” الإلكترونية