مقالات مختارة
أنقذوا ساحلي المتوسط من إردوغان
نشر في: 30/12/2019 - 15:06
خالد البري
أحد الخلافات الرئيسية في رؤية النخبة الأميركية للعالم، جوهره موقع أوروبا من سلم أولويات بلدهم. النخبة الأميركية تنقسم إلى فريقين، وانقسامها لا تحدده الانتماءات الحزبية فقط.
هناك الأطلسيون، وغالبهم من الديمقراط، يعتبرون أن التحالف الأميركي الأوروبي عبر الأطلسي هو ضمان الاستقرار. وهناك الباسيفيكون، ومعظمهم من الجمهوريين، يرون أن المنطقة الإندوباسيفيك، الصين واليابان والكوريتين والهند، هي موقع الثقل الجديد، وبالتالي فأهمية أوروبا للأمن القومي الأميركي أقل، وأهم منه المشكلات القادمة من الحدود الجنوبية للولايات المتحدة عبر المكسيك، كالهجرة غير الشرعية والمخدرات.
نستطيع أن نرى تلك الرؤية الأخيرة متجسدة في الرئيس دونالد ترمب، المتشكك في جدوى الإنفاق الأميركي على «الناتو»، مع تهرب الشركاء الأوروبيين من الوفاء بالتزاماتهم. لماذا تنفق أميركا على حماية أوروبا؟ أثناء الحرب الباردة، كان الخطر حقيقياً بسبب التهديد السوفياتي المباشر. الآن لا شيء – بالنسبة للباسيفيكيين – يستحق تحمل السفسطة الأوروبية، والعقلية غير البراغماتية التي تجلب على نفسها المشكلات بالاهتمامات بالشعارات أكثر من الواقع العملي. سخرية دونالد ترمب من سيطرة المتطرفين الإسلاميين على أحياء في مدن أوروبية تعبير عن هذا الضجر الأميركي.
نظرة الأطلسيين، التي تضع أوروبا على قمة هرم الأولويات، ينشأ عنها وضع روسيا على قمة مصادر الخطر. ومنها ينبثق اهتمامهم أيام أوباما بتركيا بوصفها حاجز الصد الأول ضد الخطر الروسي. على خلاف الباسيفيكيين، الذين يعتبرون أن روسيا – بالنظر إلى محدوديتها الاقتصادية – لا تمثل خطراً كبيراً بالمقارنة بالصين. وبناءً عليه تتراجع أهمية تركيا أيضاً. لا أقول إن تركيا منعدمة الأهمية، أقول إنها لا تستحق تضخيم نفوذها لكي يعادل الخطر الروسي، كما روّج إردوغان لأوباما والأطلسيين. الترتيب الذي أطلق عليه «الربيع العربي»، وما كان إلا ربيعاً لأحلام إردوغان. مشروع إعادة المنطقة الإسلامية الناطقة بالعربية حديقة خلفية لتركيا، كما كان الوضع أيام العثمانيين، تحت دعوى تحديثها.
فشل المشروع لسببين أساسيين، وكان لهذا أثر عميق نشهد فصلاً من فصوله هذه الأيام:
السبب الأول: التحالف الذي انتزع مصر من يد المشروع. فأثبت أن إردوغان لا يملك أوراق اللعب ولا المكانة التي ادعى. أتبع ذلك فشله في سوريا، فأكد أنه مجرد بطل من ورق، لا يستطيع فرض إرادته حتى على جارته المهتزة طائفياً، ذات النظام الضعيف، فما بالك بالدول الثقيلة كمصر والسعودية والإمارات.
والثاني: الحماقة التركية كرد فعل على هذا. كشف إردوغان وجهه. بدأ يبتز الاتحاد الأوروبي باللاجئين. فعل هذا في 2015، وكان عاملاً أساسياً في خروج بريطانيا من التكتل حين استجابت ألمانيا للابتزاز، وأدرك البريطانيون أنهم سيشاركون في دفع ثمن قرار اتخذته حكومة على الطرف الأقصى منهم.
بصعود ترمب لم يعد لدى النخبة السياسية التركية شك في أن الصفقة انتهت. اليأس جعل إردوغان يتخذ قراره الأكثر حمقاً، الذي يخاطر فيه بالمكانة الاستراتيجية لتركيا.
تحول إلى مغازلة روسيا. عارض خطة تمدد «الناتو» إلى جمهوريات البلطيق، محققاً لروسيا مطلباً أساسياً. شرع في تعاون عسكري مع روسيا يهدد أمن «الناتو» الاستخباراتي.
لا نستطيع أن نعزل ما سبق عن خبر بسيط لم نتوقف عنده كثيراً، وإن كان يستحق التوقف. قصر الإليزيه استضاف مؤخراً قمة بين الغريمين، الروسي فلاديمير بوتين، والأوكراني فلوديمير زيلينسكي. قبلها، وفي مؤتمر صحافي مشترك مع الأمين العام لحلف «الناتو»، صرح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بأن العداء مع روسيا لا يساهم في تحسين الأمن في أوروبا.
هذا يعني أن الاتحاد الأوروبي يحاول أن يحتوي «الخطر الروسي» على طريقته، بتسوية الملفات العالقة. ضمن أمور وأغراض كثيرة، يبدو هذا إعلاناً بأن لا حاجة ماسة إلى إردوغان، لقد فشل في مهمته تماماً على الجانب الروسي.
فشلت إذن تحركات إردوغان على البر الشرقي للمتوسط. أنهكته روسيا، وتشددت الدول الأوروبية معه في ابتزازه بورقة اللاجئين. فقفز إلى البحر، يهيئ لصراع مباشر مع اليونان وقبرص، العضوين في الاتحاد الأوروبي، ويحاول السيطرة على الساحل الشمال أفريقي المواجه لأوروبا؛ الثغرة الأخيرة التي يستطيع منها ابتزاز أوروبا مرة أخرى بورقة اللاجئين، والتحكم في الغاز.
كشف إردوغان عن هدفه الاستراتيجي الحقيقي: ليس مواجهة روسيا، لقد فشل، بل تطويق أوروبا وابتزازها… والخوف أن يسحب تونس معه في هذه الدوامة. فيخاطر بعلاقاتها بالجوار الأفريقي والأوروبي معاً.
أخيراً. هل تعلم أوروبا ذلك؟ بالطبع، على مستوى النخبة السياسية.
لكننا نحتاج إلى توصيله إلى المواطن الأوروبي لكي يسرع الرأي العام بدرء خطره. ساحة الأخبار الإنجليزية لا تزال حتى الآن تحت سيطرة التحالف العثماني. الذي بنى جسوراً مع محترفين تكنوقراط، كوكالات الترويج الصحافي، يوصلون سرديته إلى المواطن الأوروبي.
هناك الأطلسيون، وغالبهم من الديمقراط، يعتبرون أن التحالف الأميركي الأوروبي عبر الأطلسي هو ضمان الاستقرار. وهناك الباسيفيكون، ومعظمهم من الجمهوريين، يرون أن المنطقة الإندوباسيفيك، الصين واليابان والكوريتين والهند، هي موقع الثقل الجديد، وبالتالي فأهمية أوروبا للأمن القومي الأميركي أقل، وأهم منه المشكلات القادمة من الحدود الجنوبية للولايات المتحدة عبر المكسيك، كالهجرة غير الشرعية والمخدرات.
نستطيع أن نرى تلك الرؤية الأخيرة متجسدة في الرئيس دونالد ترمب، المتشكك في جدوى الإنفاق الأميركي على «الناتو»، مع تهرب الشركاء الأوروبيين من الوفاء بالتزاماتهم. لماذا تنفق أميركا على حماية أوروبا؟ أثناء الحرب الباردة، كان الخطر حقيقياً بسبب التهديد السوفياتي المباشر. الآن لا شيء – بالنسبة للباسيفيكيين – يستحق تحمل السفسطة الأوروبية، والعقلية غير البراغماتية التي تجلب على نفسها المشكلات بالاهتمامات بالشعارات أكثر من الواقع العملي. سخرية دونالد ترمب من سيطرة المتطرفين الإسلاميين على أحياء في مدن أوروبية تعبير عن هذا الضجر الأميركي.
نظرة الأطلسيين، التي تضع أوروبا على قمة هرم الأولويات، ينشأ عنها وضع روسيا على قمة مصادر الخطر. ومنها ينبثق اهتمامهم أيام أوباما بتركيا بوصفها حاجز الصد الأول ضد الخطر الروسي. على خلاف الباسيفيكيين، الذين يعتبرون أن روسيا – بالنظر إلى محدوديتها الاقتصادية – لا تمثل خطراً كبيراً بالمقارنة بالصين. وبناءً عليه تتراجع أهمية تركيا أيضاً. لا أقول إن تركيا منعدمة الأهمية، أقول إنها لا تستحق تضخيم نفوذها لكي يعادل الخطر الروسي، كما روّج إردوغان لأوباما والأطلسيين. الترتيب الذي أطلق عليه «الربيع العربي»، وما كان إلا ربيعاً لأحلام إردوغان. مشروع إعادة المنطقة الإسلامية الناطقة بالعربية حديقة خلفية لتركيا، كما كان الوضع أيام العثمانيين، تحت دعوى تحديثها.
فشل المشروع لسببين أساسيين، وكان لهذا أثر عميق نشهد فصلاً من فصوله هذه الأيام:
السبب الأول: التحالف الذي انتزع مصر من يد المشروع. فأثبت أن إردوغان لا يملك أوراق اللعب ولا المكانة التي ادعى. أتبع ذلك فشله في سوريا، فأكد أنه مجرد بطل من ورق، لا يستطيع فرض إرادته حتى على جارته المهتزة طائفياً، ذات النظام الضعيف، فما بالك بالدول الثقيلة كمصر والسعودية والإمارات.
والثاني: الحماقة التركية كرد فعل على هذا. كشف إردوغان وجهه. بدأ يبتز الاتحاد الأوروبي باللاجئين. فعل هذا في 2015، وكان عاملاً أساسياً في خروج بريطانيا من التكتل حين استجابت ألمانيا للابتزاز، وأدرك البريطانيون أنهم سيشاركون في دفع ثمن قرار اتخذته حكومة على الطرف الأقصى منهم.
بصعود ترمب لم يعد لدى النخبة السياسية التركية شك في أن الصفقة انتهت. اليأس جعل إردوغان يتخذ قراره الأكثر حمقاً، الذي يخاطر فيه بالمكانة الاستراتيجية لتركيا.
تحول إلى مغازلة روسيا. عارض خطة تمدد «الناتو» إلى جمهوريات البلطيق، محققاً لروسيا مطلباً أساسياً. شرع في تعاون عسكري مع روسيا يهدد أمن «الناتو» الاستخباراتي.
لا نستطيع أن نعزل ما سبق عن خبر بسيط لم نتوقف عنده كثيراً، وإن كان يستحق التوقف. قصر الإليزيه استضاف مؤخراً قمة بين الغريمين، الروسي فلاديمير بوتين، والأوكراني فلوديمير زيلينسكي. قبلها، وفي مؤتمر صحافي مشترك مع الأمين العام لحلف «الناتو»، صرح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بأن العداء مع روسيا لا يساهم في تحسين الأمن في أوروبا.
هذا يعني أن الاتحاد الأوروبي يحاول أن يحتوي «الخطر الروسي» على طريقته، بتسوية الملفات العالقة. ضمن أمور وأغراض كثيرة، يبدو هذا إعلاناً بأن لا حاجة ماسة إلى إردوغان، لقد فشل في مهمته تماماً على الجانب الروسي.
فشلت إذن تحركات إردوغان على البر الشرقي للمتوسط. أنهكته روسيا، وتشددت الدول الأوروبية معه في ابتزازه بورقة اللاجئين. فقفز إلى البحر، يهيئ لصراع مباشر مع اليونان وقبرص، العضوين في الاتحاد الأوروبي، ويحاول السيطرة على الساحل الشمال أفريقي المواجه لأوروبا؛ الثغرة الأخيرة التي يستطيع منها ابتزاز أوروبا مرة أخرى بورقة اللاجئين، والتحكم في الغاز.
كشف إردوغان عن هدفه الاستراتيجي الحقيقي: ليس مواجهة روسيا، لقد فشل، بل تطويق أوروبا وابتزازها… والخوف أن يسحب تونس معه في هذه الدوامة. فيخاطر بعلاقاتها بالجوار الأفريقي والأوروبي معاً.
أخيراً. هل تعلم أوروبا ذلك؟ بالطبع، على مستوى النخبة السياسية.
لكننا نحتاج إلى توصيله إلى المواطن الأوروبي لكي يسرع الرأي العام بدرء خطره. ساحة الأخبار الإنجليزية لا تزال حتى الآن تحت سيطرة التحالف العثماني. الذي بنى جسوراً مع محترفين تكنوقراط، كوكالات الترويج الصحافي، يوصلون سرديته إلى المواطن الأوروبي.