“أنجبتك أنا، وأنا الأحقٌّ بقتلك”
سالم العوكلي
تقدم سينما هوليوود الأوريلية بعض النماذج لعالم الديستوبيا الذي تطرحه بعض الأفلام الأمريكية، العالم المخيف الذي تسوده الفوضى ولا وجود للخير فيه يحكمه الشر المطلق ومن أبرز ملامحه القتل والقمع والفقر والمرض، عالم يتجرد الإنسان فيه من إنسانيته ويتحول فيه المجتمع إلى مجموعة من المسوخ يقتل بعضها البعض. وتقدمه السينما عبر أشخاص يدخلون سراديب ومختبرات البنتغوان والسي أي آي ويتم التلاعب بأدمغتهم أو تزويدهم بشرائح إلكترونية تحولهم إلى قتلة دون تفكير، والأخطر منذ لك التحكم في توجيه هذا الشر صوب أهداف محددة ، وكثير من القتلة الأذكياء المأجورين يمرون بهذا النوع من التخليق الإلكتروني كما تقترح السينما الديستوبية، وكل تعريف لعالم الديستوبيا ينطبق على تنظيم داعش أو غيره من التنظيمات الدموية التي مرت عبر التاريخ وفي الأديان والثقافات كلها .
إبراهيم السامرائي، المشهور باسم: أبوبكر البغدادي، دكتور في الشريعة، اعتقلته القوات الأمريكية لفترة في العراق ثم أطلقت سراحه، غير أن هذا الكائن خرج من دهاليز المخابرات الأمريكية شخصا مختلفا، وبعد مقتل الزرقاوي؛ مؤسس مجلس شورى مجاهدي العراق، وخليفته، قدمه أحد البعثيين السابقين ، الضابط السابق في قوات صدام الخاصة ، حجي بكر، ليكون زعيما لتنظيم القاعدة في العراق أو ما سمي فيما بعد الدولة الإسلامية في العراق التي دمجها مع تنظيم القاعدة في سوريا لتصبح الدولة الإسلامية في العراق والشام، أو ما سمي (داعش) الذي اجتاح بسرعة غريبة مدنا كبيرة في العراق وسوريا وسيطر عليها وعلى أموال مصارفها وآثارها وآبار نفطها. هذا السامرائي المسمى البغدادي والذي أعلن نفسه خليفة على المسلمين من منبر جامع الموصل لم يكن كما يقول المقربون منه الشخص نفسه قبل وبعد اعتقاله من قبل القوات الأمريكية وإطلاق سراحه بهذا الطاقة التدميرية الموجهة. والعجيب أن هذا التنظيم ــ مثلما يحدث في عمليات صناعة القتلة في سينما الخيال/ الواقع في أمريكا من تحديد الأهداف ــ توجه إلى قتل الآلاف من مسلمي السُنّة في تناقض مع عقيدته النظرية، فلم يقتل الأمريكان ولا الشيعة المكفرين نظريا من قبله ولا وجه طلقة صوب إسرائيل . لقد تخصص هذا التنظيم في كل مكان حل به في قتل أبناء جلدته وأصحاب مذهبه، ويبدو أن هذا النهج هو التعديل الجيني الذي أُخضِع له تنظيم القاعدة
يقول الرئيس الشيشاني السابق: قتل البغدادي يعيد للذهن كلمات الشاعر الأوكراني تاراس بولبا لابنه “لقد أنجبتك أنا، وأنا الأحق بقتلك”.
أما ترامب؛ فيختصر سنوات حكمه السابق في مطاردة البغدادي الذي تنقل من الموصل في العراق إلى الرقة والباغوز، حتى استقر به المقام في قرية باريشا في ريف إدلب الشمالي القابع تحت حماية تركيا وحلفائها من بقايا تنظيم القاعدة الذين تسميهم (المعارضة) . كيف تنقل البغدادي بهذه السهولة حاملا معه الملايين من الدولارات من بنك الموصل المركزي وعائدات النفط والقطع الأثرية والأعضاء الإنسانية التي كان يبيعها عبر وسطاء في تركيا؟ كيف استطاع التنقل تحت سماء يغطيها تحالف دولي من أكثر من 70 دولة، وعلى أرض بها كل القوات والفصائل التي تتظاهر بعدائها لداعش؟ سيظل هذا السؤال مطروحا حتى تجيب عليه يوما ما وثائق أجهزة الاستخبارات المسيطرة على تلك الأرض التي يتسكع فيها خليفة المسلمين المعروض مقابل أي معلومة تدل عليه مكافأة مقدارها 25 مليون دولار.
يقول المقربون من البغدادي الذين تم القبض عليهم أن التنظيم قام في الفترة الأخيرة وبعد هزيمته بتحييده كمتقاعد في تلك القرية القريبة من الحدود التركية تماشيا مع إستراتيجية التنظيم الجديدة التي تحرر القرار من المركزية بعد أن فقد التنظيم مناطق سيطرته وأهم عناصره الإدارية وأصبحت الجماعات المعزولة أو الذئاب المنفردة تتصرف وفق أيدلوجية التنظيم وأهدافه. وهو كما بن لادن حين تم تحييده وتحديد إقامته الجبرية في منزل محروس بشدة في الباكستان قرب الحدود الأفغانية عندما انتهت مهمته وانتهى دوره، فإن البغدادي في مقر إقامته الجبرية الجديدة في شمال سوريا قرب الحدود التركية تم قتله بالطريقة نفسها حين انتهت مهمته ولكن لماذا تقتل هذه الرؤوس التي لم يعد لها دور فعلي على الأرض في التخطيط،س وبعد أن تقاعدت ضمنيا واستلم المهام الميدانية جيل جديد؟ الإجابة تكمن أن هذه الشخصيات المحروقة أو القنابل المنزوع فتيلها تتحول في الوقت المناسب إلى أوراق انتخابية مفيدة كآخر مهمة لها، ومثلما مقتل بن لادن زاد من شعبية أوباما، قد يفعل مقتل البغدادي الدور نفسه مع ترامب الذي يستعد لانتخابات فترته الثانية. إنهم مسوخ تنتجها أجهزة المخابرات للقيام بأدوار محددة لمصالح تلك الدول ثم تتحول حين تُحرق إلى هدف للدعاية الانتخابية للحزب الحاكم في أقوى دولة.
يقول ترامب في خطابه الاحتفالي بقتل البغدادي أن الأمر كان في أقصى درجات السرية لدرجة حجبه عن مؤسسات السلطة في واشنطن لأن المعلومات ــ كما قال ــ تتسرب منها، وفي الوقت نفسه يشكر شركاءه في العملية : روسيا والعراق وتركيا وقوات سوريا الديمقراطية، فكيف يخفي العملية على مؤسسات القرار المركزية في واشنطن ويُعلم كل هؤلاء ويشاركهم ؟! وهم بدورهم تزاحموا على تأكيد مشاركتهم في هذا المزاد الدعائي ما عدا روسيا التي صرحت أن لا علم لها بالعملية، وكأن ترامب يسعى لتوجيه ردات فعل بقايا التنظيم صوب هؤلاء الشركاء المفترضين، فالأقربون أولى بالإرهاب.
المشكلة أن بن لادن أو البغدادي لا يشكلان إلا الحلقة الأخيرة في منظومة إرهاب كونية حلقتها الأولى هي مصانع السلاح والذخائر الكبرى التي تضج تروسها في قلب ديمقراطيات العالم الكبرى التي يتحدث ساستها عن السلام في كل خطاب، ولو لم تصل أسلحتها الفتاكة لهذه التنظيمات لما استطاعت أن تفتك بعشرات الألوف من البشر في وقت قياسي، وهذا المصانع وراءها لوبي ضخم هو الذي يحرك السياسة في العالم ويصنع القرار، ومثلما ستفلس مصانع الكوكاكولا عندما لا تجد من يحتسي منتجها، فإن مصانع هذا اللوبي التي تنتج ملايين الأطنان من السلاح والذخيرة ستفلس حين لا تجد من يستخدم منتجاتها.
هذه الظواهر الإرهابية التي لا نشك في شرها المطلق تظل جماعات بشرية يمكن القضاء عليها في أي وقت، لكن سباق التسلح، والمخزون النووي الضخم، وما يتعرض له المناخ من تغيرات خطيرة بفعل تلويث هذه القوى العظمى له، هي الإرهاب الحقيقي الذي يهدد كل البشر والأجيال القادمة، بل يهدد كوكب الأرض برمته.