أم المصابيح*
عمر أبوالقاسم الككلي
لا يُعرف من أسماها. كأن اسمها نقيضها الذي انبجس معها. أو كأن هَجَّاء ظريفا ماكرا أراد أن يُعِّيرها بما هي مفتقرة إليه، إلا أنها، في محنة الافتقار ذاتها، محكومة بالهجس به والاشرئباب نحوه وربما، بالخشية منه أيضا. فتوارت في هذه المغارة الخفيضة، كالهمس، المستكنة، كالجنين، في حضن شِعب ضيق، دون أن تمد رأسها خارجا، لتصبح، بذا، متوحدة، ومستوحدة، معها.
***
يقطع إليها مسافة طويلة مع شابات تستضيء نفوسهن وتهسهس أجسادهن بمباهج زواج حديث، وأخريات تمور أفئدتهن بالتشوق إليه، مثلما تهجس أم المصابيح، التي لا تدخل أشعة الشمس مغارتها لا حين الشروق ولا عند الغروب، بالضوء الرهيف وتتوق إليه.
لابسات أفضل ملابسهن متحليات بحليهن الفضية ( دمالج وأساور تمسد على المعاصم والأذرع ذات الأكف المزدهية بالحناء، “صوالح” وأقراط تتدلى من الضفائر والأذنين، قلائد وصفائح تعانق الجيود وتتكئ على روابي الصدور وخلاخيل سميكة تهتز فوق الكعبين) مستكملات زينتهن ومتفوحات بالعطور الرخيصة.
يستمتع، طوال المسافة، ذهابا ورجوعا، بوسوسة الحلي (التي تكون في فترة الذهاب أنشط) متنشقا عطرهن (لأنهن يستعملن، تقريبا، نفس النوع) والضحكات والبهاء الظاهر والفتنة الخبيئة، الأحاديث المُبَهَّرة بإيماءات وتلميحات يعتقدن أنها تخفى عليه (لعل معظمها من توهمه) الوشوشات المتبادلة بينهن التي يوقن أنها متعلقة بمفاتن يسمع عنها ويتخيلها وأفعال سرية حميمة (مثل أم المصابيح) تفيض حلاوة.
ما لا يستوعبه هو ذلك التوتر الذي يسري في حركاتهن والرعشة التي تنتاب أصواتهن بمجرد الوصول إلى نهاية الشعب وبلوغ مدخل المغارة، حيث عين الماء الشحيحة. وما يثير استغرابه أكثر هو اندفاعهن إلى اغتراف الماء في استعجال وتوتر شديدين مطلقات، في العتمة الرطبة وسكون الهواء، زغاريد وأهازيج مترعة بارتعاشات الخوف، إلى درجةٍ لا يعدن يحرصن معها على ملء أوعيتهن ملأ كاملا.
***
فيما بعد عرف السر.
إذ تشيع حكاية بأن عروسا شابة اختطفت ليلة زفافها وذبحت هناك. فكن يخشين من أنهن إذا ما ظللن صامتات ستتنبه روحها المحبطة وتروعهن. لذا كن يخدعن هذه الروح بالزينة والعطر ورنين الحلي والزغاريد ليوهمنها بأن حفل زفافها مازال قائما صاخبا وأن أشواقها اللائبة ستتحقق بعيد قليل.
ورغم ذلك كن يتعجلن الخروج والابتعاد خشية انكشاف الخدعة.
***
توصف مغارة أم المصابيح بأنها مجهولة النهاية لايعلم إلى أين تفضي: إلى سطح بر آخر بعيد، أو إلى مجاهيل غيابات الأرض. ويحكى أن محاولات لسبر امتدادها أو غورها باءت، جميعها، بالفشل أو الخسران:
” ما عرفلها حد قعر و لا ساس. أرضها مش مِسَّاوية وسقفها يتعلى ويتواطى. مرات يوقف فيها البنادم على طوله ومرات يمرد مريد، مرات يرقى ومرات ينزل والا يطيح في حفرة. واش مالها ظلامها يزيد، لين يولي أسود طليس، زي قلب العدو. يحكوا لَوْلِين على جماعة عزارى مرة قالوا لابد نعرفولها راس من ساس. مشوا خذوا معاهم مقاطع كتان واُبادين زيت وحاجات يقدحوا بيها النار باش يشعلوا الكتان من هذاك الزيت ويضووا طريقهم. وخذوا معاهم اِحْزم حبال وشيتات واُماس وزاد، واشبح شن ثاني (على خاطر أنى ما كنتش معاهم ولا شفتهم لما امشوا). ربطوا الحبل في حاجة قدام المغارة وخشوا يجروا فيه اوراهم. من هذيك الخشة ما عاد طلعوا. لا جى منهم خبر ولا شافلهم حد جُرة. حتى الحبل ما لقوهش”.
تحكي الحاجة مباركة بنت علي الصغير عن أم المصابيح.
أمِّ المصابيح نقيضة اسمها، المسكونة بالعتمة والظلمة والمجهول، والمرتبط صيتها بالموت والدم والقتل والفقدان والضياع والخوف، المنطوية على فرح قتيل يبعث بعثا وهميا لفترات وجيزة وخصوبة ملغاة وعلى حلم بالضوء وشغف بإزالة حجب المجهول وسطوع المعرفة.
أمِّ المصابيح المحاصرة بالمَحْل والعطش، التي منحها الماء الشحيح اسمها وتاريخها وحكاياتها وحضورها في الذاكرة والوجدان. الماءُ الذي جعلتها شحته تصاب بشح في النور والمعرفة وتتحول إلى مَحَل تجهض فيه الأفراح وتجترح اجتراحا.
ومع ذلك، فلولا هذا الماء لكانت نسيا منسيا.
* عين ماء بهذا الاسم في منطقة “العموريين” بـ “ككلة”.