أم الليبيات.. قصة معلمة اسمها حميدة
حميدة العنيزي، من الأسماء المحفورة في الذاكرة الليبية، لما قدمته للمجتمع من خدمات سامية تمثلت في التعليم الابتدائي والعمل الاجتماعي والنسائي، ولا شيء يسمو على تكريس الجهد والوقت لإنشاء الأجيال والارتقاء بالمجتمع، وحمْل هم المرأة الليبية في زمن قاس كان فيه تقبل أفكار التطوير ليس بالأمر الهين.
الطفولة والتعليم
العنيزي المولودة في العام 1892، في بنغازي، التحقت بالمدارس التركية ونالت الشهادة الراشدية ثم أرسلت إلى اسطنبول لإكمال تعليمها العالي، وكانت تتلقى العلم باللغتين الفرنسية والتركية، ونالت دبلوم المعهد العالي في التدريس، وأثناء وجودها في تركيا تلقت عرضا للعمل في مدينة جدة السعودية إلا أنها آثرت العودة إلى الوطن، لكن العدوان الإيطالي على ليبيا أخر عودتها عاما آخر.
العودة إلى الوطن
وفي أول فرصة لها، شدت العنيزي الرحال إلى أرض الوطن حاملة معها “خطة جهاد” على طريقتها الخاصة. وبعد رفض والدها العمل في المدارس الإيطالية قررت استكمال الدراسة وهذه المرة لإجادة اللغة العربية، لتصبح حصيلتها من اللغات (اليونانية والفرنسية والتركية والعربية والإيطالية).
بداية مشوار التعليم
ولأن الوطنية تجري في عروقها، لم ترضى العنيزي أن يبقى العلم الذي تشرّبته حبيس صدرها، وهي ترى الفتيات والنساء يعانين من الأمية وغياب المعرفة، فدعت بنات الأسرة والجيران إلى بيتها في منطقة سوق الحوت لتبدأ معهن بمرحلة الإعداد وتعليم القراءة والكتابة وحفظ القرآن والتطريز والحياكة، سجل لها التاريخ بأنها أول معلمة ليبية للتعليم الابتدائي في بنغازي، وأول مديرة ليبية لمدرسة للبنات في عهد الإدارة العسكرية البريطانية.
الزواج
ولزواجها من عبدالجليل العنيزي في العام 1920 قصة أخرى بدأت من إحدى طالباتها وهي خيرية العنيزي ابنة عبدالجليل، والتي حدثت والدها عن معلمتها العربية التي تتحدث التركية مثلها وتختلف عن نساء المنطقة في الملبس والسلوك، ويبدو أنه نشأت بين عبدالجليل وحميدة علاقة مميزة جعلت الأول يتقدم لزواجها بعد وفاة زوجته التركية، لتبدأ مرحلة جديدة من حياة هذه المرأة.
نشاط إنساني
وفي جانب العمل الاجتماعي والنسائي، قامت حميدة العنيزي بتأسيس عدد من الجمعيات الاجتماعية والنسائية من بينها أول جمعية نسائية في ليبيا، ومثلت مع غيرها من أعضاء الجمعية، المرأة الليبية في المحافل الدولية والعربية وترأست المرأة الليبية في هذه المؤتمرات، كما عملت أن يمتد نشاطها وأن يتعدى حدود بنغازي، فأنشأت فروعا للجمعية في البيضاء ودرنة وطبرق.
جمعية نسائية
وبعد نجاحات تحققت هنا وهناك، وثقة أخذت في التمدد وسمعة وصلت كل ربوع الوطن وخارجه، قررت حميدة بناء مقر جديد للجمعية النسائية بحي السكابلي، ضم أول قاعة للأفراح في بنغازي وربما في ليبيا، ولأهمية هذه الجمعية زارتها عملاقة الطرب المصري الفنانة أم كلثوم.
شهادات عديدة ما تزال تُرى إلى هذا اليوم من طالبات “أبلة حميدة” وشريكاتها في الجمعيات، تعكس مدى الجهد الذي قامت به لتغرس في نفوس من حولها قوة التأثير وحب العمل والإيمان بالمبادئ وأنها سر النجاح.
تجربة الكشافة
وفي العام 1960 اتصل منصور الكيخيا مفوض كشاف برقة، مع حميدة العنيزي يطلب الدعم من خلال تشجيع الفتيات على الانضمام إلى الحركة الكشفية، وبقوة تأثيرها على المجتمع النسائي وسمعتها الطيبة، توجهت إلى أولياء أمور الطالبات الراغبات في الالتحاق بالحركة وأقنعتهم بمبادئ وأخلاقيات الكشافة السامية.
تكريم متأخر
تقلدت “أبلة حميدة” وسام رفيع الشأن في العام 1968، كما منحت في 1989 بعد وفاتها، وسام الريادة، وتم إصدار طابع بريد يحمل صورتها التي كانت في قلوب الليبيين قبل ذلك.
أم الليبيات
“أم الليبيات”، أو “أم الليبيين”، هكذا يحلو للبعض أن يسمّي حميدة العنيزي، بالنظر إلى دورها الإنساني والاجتماعي، حتى أن ثقة الناس بها جعلتهم يلجأون لها لحل الخلافات الأسرية.
وداع حزين
وكما لكل بداية نهاية، توفيت حميدة العنيزي في 12 أغسطس 1982، وضم ثرى مقبرة سيدي اعبيد جثمانها، ليبقى صداها مدويا في الذاكرة الليبية إلى يومنا هذا.