أمل يتجدد في ليبيا
سليمان جودة
في كل مرة يلتقي فيها وزراء خارجية دول الجوار الليبي على طاولة واحدة، يتجدد الأمل في أن يتمكنوا من قطع خطوة أخرى، في اتجاه مربع تصبح منه ليبيا قادرة على حماية حدودها، والإمساك بكيانها، والحفاظ على الحد الأدنى من تماسكها بين الدول!
دول الجوار المقصودة هي مصر، والجزائر، وتونس. والواضح أن الجوار المقصود هو الجوار العربي فقط؛ بل يبدو المسمى على حالته الراهنة مسمى ناقصاً؛ لأن السودان دولة جوار عربي مع ليبيا، وله معها حدود مباشرة، ومع ذلك فليس عضواً في هذا التجمع العربي الثلاثي!
ولا أعرف ما إذا كان التجمع الثلاثي يمكن أن يتسع لكل دول الجوار مع ليبيا؛ سواء كانت عربية أم غير عربية، ولكن ما أعرفه أن ليبيا تحتفظ بعلاقة جوار من النوع المباشر، مع دول ثلاث أخرى، بخلاف الدول الثلاث التي يضمها التجمع على صورته الحالية، وأن هذه الدول الثلاث الأخرى هي تشاد، والنيجر، بالإضافة إلى السودان بطبيعة الحال!
وفي مطلع هذا الأسبوع، كان وزراء خارجية دول الجوار العربي الثلاث، على موعد جديد مع لقاء في العاصمة الجزائرية، وكانوا يتحدثون عن دعم جاهز للدولة الليبية من جانب الدول الثلاث، على المستوى السياسي، وعلى المستوى الأمني. وفي البيان الصادر بعد الاجتماع، كانت الدهشة حاضرة من عدم قدرة الأطراف السياسية الليبية المختلفة على الوصول إلى توافق، رغم الجهد المبذول طول الوقت، من غسان سلامة، مبعوث الأمم المتحدة إلى الملف الليبي!
وقد كان التفاؤل كبيراً يوم اختيار سلامة بالذات، مبعوثاً أممياً إلى ليبيا؛ لأنه بخلاف مبعوثين اثنين سبقاه، يظل هو واحداً من أبناء المنطقة، ويظل يقال فيه ما يقال عن أهل مكة الذين هُم أدرى بشعابها. ولكن تجربة المبعوث الأممي حولنا، سواء كانت في سوريا، أم في اليمن، أم في سواهما، تقول إن المبعوث الأممي يدير الأزمة التي بين يديه في الغالب، ولا يحلها، وإنه، حتى ولو كان غسان سلامة شخصياً، ليس ساحراً ولا يملك عصا موسى، ولو حدث وامتلكها فسوف يكون ذلك بعون من العاصمة التي ذهب إليها مبعوثاً، ومن أهلها، ومن الأطراف الفاعلة في العملية السياسية فيها، قبل أن يكون بقدرات ذاتية يتميز بها!
فمهما بلغ إخلاص المبعوث الأممي في قضيته التي بعثوه من أجلها، فلن يكون كإخلاص أبناء البلد، ولا كإخلاص أهله. وحين جاءت امرأتان إلى لقمان – عليه السلام – تتنازعان البنوة على طفل، ذات يوم، حاول الحكم بينهما بالعدل، ولكنهما لم تسعفاه، فلما يئس منهما طلب منشاراً يشق الطفل نصفين، ويعطي كل واحدة منهما نصفاً، فصرخت إحداهما ترفض بإصرار وتطلب الحفاظ على حياة الولد، ولو كانت النتيجة أن تفوز به المرأة الأخرى. وكان لدى لقمان قدر من الحكمة يكفيه ليدرك به أن هذه السيدة الصارخة هي الأم الحقيقية، لا غيرها، وأن الأخرى هي الزائفة، وأن الطريقة التي تصرفت بها الأم، وهي تصرخ، هي طريقة أي أم طبيعية، فلا أحد يمكن أن يسايرها في خوفها على ولدها، ولا أحد يستطيع أن يجاريها في صدق عواطفها، ولا في صفاء مشاعرها!
وهكذا بالضبط الحال مع غسان سلامة، وهو يحاول منذ جاء، فهو لن يكون في إمكانه مغادرة دائرة إدارة الأزمة إلى دائرة حلها، إلا من خلال يد ممدودة بصدق من كل طرف سياسي ليبي، في اتجاه التوافق لصالح وطن، لا لصالح فرد، ولا جماعة، ولا طائفة!
وفي كل مرة كان يصل فيها مبعوث أممي إلى أي عاصمة، كانت أجندة المنظمة الدولية والقوى المتحكمة فيها، تبدو واضحة في عمله، وموجهة لكل خطواته، وهذا أمر طبيعي، فالمؤسسات التي على هذا المستوى، ليست بالتأكيد جمعيات خيرية، ولكن سلامة يستطيع أن يكون من بين استثناءات هذه القاعدة؛ لأن عربيته تسبق دولية وظيفته، ولأن انتماءه إلى المنطقة شيء يجري في دمه، ولا يستطيع أن يتجرد منه، ولا أن يقاومه، ولا أن يمنعه من أن يمارس تأثيره في وجدانه!
وإلى أن يأتي وقت نقف فيه على الأبعاد الحقيقية للعملية التي قام بها حلف شمال الأطلسي في ليبيا، لإسقاطها في الحقيقة لا لإسقاط العقيد القذافي، في غمرة ما لا يزال يُسمى «الربيع العربي»، فإن تجمع الدول الثلاث مدعو في ظني إلى التفكير في إتاحة عضويته للدول الثلاث الأخرى، ثم تلتقي الدول الست مع المبعوث الأممي عند نقطة في الوسط، هي التي يمكن بها تدارك تداعيات عملية الحلف الكارثية هناك!
هذه النقطة الوسط هي رفع حظر تصدير السلاح المفروض على الجيش الليبي من الأمم المتحدة. إنها نقطة أولى تؤدي إلى ما بعدها، ولا يؤدي ما بعدها إليها؛ لأنه ليس من المتصور أن يقال في الأنباء إن «دواعش» وصلوا إلى سرت بعتادهم، وسلاحهم، وقذائفهم، وربما صواريخهم، وإن هذا العتاد نفسه، والسلاح نفسه، والقذائف نفسها، والصواريخ نفسها، محظورة على جيش البلد الوطني، ومتاحة في الوقت ذاته للدواعش ولغير الدواعش من جماعات العنف التي تدفقت، ولا تزال تتدفق، على شواطئ وحدود ليبيا!
ليبيا دولة ممتدة الشواطئ والحدود، وشاطئها على البحر المتوسط يطول إلى 2000 كيلومتر، والفراغ الذي وقع فيها بعد عملية حلف «الناتو»، أغرى ليس فقط أفراداً وجماعات بالاندفاع لملء فراغها، ولكنه أغرى دولاً بكاملها. وليس في مقدور قوة أن تضبط الأمور في مساحة بهذا الامتداد، سوى قوة جيش البلد الوطني، ولن يكون الجيش الوطني الليبي كفيلاً بهذه المهمة، إلا إذا كان موحداً، ومدرباً، ومسلحاً، بالقدر الذي يجعله مستعداً للدفاع عن أمن بلد، لا للهجوم على أي بلد مجاور!
امنحوا ليبيا الفرصة في أن يكون لها جيش، فدولة بلا جيش ليست دولة، ولا تبخلوا على جيشها بالسلاح، وتفتحوا أبوابه لأهل الإرهاب الذي لا يختار ضحاياه. فالإرهاب بطبيعته أعمى، ولأنه أعمى فهو لا يفرق بين الضحايا، ولأنه لا يفرق، فمن الوارد جداً أن يكون الذين يمنعون السلاح عن جيش ليبيا، هدفاً ذات يوم في مرماه!