ألا تذكر يا “أحمد إبراهيم”؟؟
إدريس بن الطيب
عندما تم الإعلان عن دعوة الأخ “أحمد إبراهيم” إلى ما سماه “حواراً مفتوحاً حول الشأن المحلي والوطني” تصورت أن الأمر سيكون متعلقاً “بالحوار” حول مرحلة من تاريخ وطننا، قراءتها، فهمها، تحليلها، نقدها بشجاعة، من ثم تجاوزها إلى المستقبل.
لكن الذي حدث هو الاحتمال الآخر الذي تصورته، وهو عقد مؤتمر صحفي للأخ “أحمد إبراهيم” ليقوم فيه بتفسير أو تبرير إجراءات إدارية اتخذها خلال مسيرته الوظيفية، ثم زاد عليها آراءه ومواقفه في محاولة واضحة للإعلان عن الوجود.
وبالرغم من أن هذا المؤتمر الصحفي قد زخر بالعديد والعديد من المسائل التي تحتاج إلى نقاش و”حوار” بالمعنى الحقيقي، وليس حوار المؤتمرات الصحفية، بل حوار يضمه مؤتمر وطني شامل يتم الإعداد له ويحضره كل المعنيين من الليبيين من الداخل والخارج، وذلك طبعاً بعد استبعاد مصطلحات التخوين والتشبيه بالكلاب سواء كانت ضالة أم أليفة.
أقول بالرغم من احتواء المؤتمر الصحفي للأخ “أحمد إبراهيم” على كثير من القضايا، إلا إنني قررت أن أناقش الأخ “أحمد إبراهيم” في جملة واحدة فقط لا غير قالها أثناء حديثه.
قال أحمد إبراهيم:”وأنا أؤكد أمامكم أنني في حياتي لم أضرب شخص في حياتي إطلاقاً ولا مرة” وقد حاولت الاحتفاظ بالجملة كما هي بتكرارها وأخطائها النحوية، ورداً على هذا القول، أود أن أذكر الأخ “أحمد إبراهيم” بما حدث في مسرح مدرسة “شهداء يناير” الثانوية ببنغازي يوم الثلاثاء 26 ديسمبر 1978 ما بين الساعة الرابعة مساءً والعاشرة ليلاً.
قامت جمعية المرأة الجديدة ببنغازي – في إطار نشاطها الثقافي – بتنظيم أسبوع ثقافي في ذكرى وفاة الشاعر الليبي “علي الرقيعي” يبدأ يوم السبت 23 ديسمبر، وكان يفترض أن يستمر حتى يوم 28 ديسمبر، حيث كان يحتوي أمسية شعرية وأمسية عن المسرح وأمسية قصصية، لولا أن حدث ما حدث يوم 26 ديسمبر 1978.
كان يوم 26 – 12 مخصصاً للأمسية القصصية، وقد بدأت حوالي الرابعة بعد الظهر، ولم تكد تبدأ حتى وقفت حافلات أمام مسرح المدرسة، ونزل منها أعداد من الأشخاص المسرعين والمندفعين نحو المسرح يحملون مسدساتهم ويصرخون مما أحدث حالة من الرعب لدى أولئك الأشخاص الذين جاؤوا لحضور الأمسية القصصية التي كان يفترض أن تحتوي قراءات لقصص قصيرة، لكن القصة الطويلة كانت قد بدأت للتو.
كانت هذه مجموعة من الثوريين بقيادة – وأصر على كلمة بقيادة – أحمد إبراهيم الذي سارع بإصدار تعليماته بصوت جهوري:”أغلق الأبواب ومن يحاول الخروج أطلقوا عليه النار”.
ثم بدأت محاولة فرز الأشخاص المستهدفين عن بقية الناس، ووضعهم في الكراسي الأمامية دفعاً وجراً وسط حالة هائجة من الهتاف والعصابية، ثم بدأ توالي هؤلاء الهائجين على ناقل الصوت للتعبير عن تأييدهم للثورة، واستعدادهم لسحق الخونة، بل إن أحدهم قد استخفه الهياج؛ فصرخ قائلاً:”لماذا لا نشنقهم هنا والآن؟ ها هو المسمار موجود في السقف، كل ما نحتاجه هو حبل ولا داعي للأمن أو المحاكم” ويجب أن أذكر أن “أحمد إبراهيم” لم يستجب – لحسن الحظ – لتلك الدعوة المسعورة، ربما لأن قراراً كهذا لم يكن بوسعه – آنذاك – اتخاذه.
عندما كتب “سعد الله ونوس” مسرحيته “حفلة سمر من أجل 5 حزيران” في أوائل السبعينيات والتي تتحدث عن اقتحام أجهزة الأمن لأمسية ثقافية، كان يعتقد أنه يتعامل مع “الفنتازيا” لكن ما حدث في مسرح مدرسة “شهداء يناير” ذلك اليوم أثبت أن الواقع لدينا أكثر “فانتازيا” من “الفانتازيا” نفسها، ولذلك فقد استمرت جوقة الخطابات الصارخة حتى العاشرة مساءً تم خلالها الإفراج عن الناس الذين جاؤوا لحضور الأمسية بعد أن توسلوا طويلاً؛ ليتم تسليمنا إلى مديرية أمن بنغازي.
أثناء تلك الساعات التي لا تنتهي حدثت مجموعة من الأمور؛ فقد تم انتقاء ستة عشر كاتباً وقاصاً وشاعراً وصحفياً، وذلك بعد تعديلات وإضافات واستبدالات في قائمة المعتقلين كانت تتم بجرة قلم، لقد كانت مصائر الناس لحظتها تقرر بإرادة شخص واحد أو شخصين، وكمثال على ذلك؛ فقد تم تغيير اسم الأستاذة “أم العز الفارسي” باسم شقيقها رمضان نظراً لعدم إمكانية سجن امرأة في ذلك الوقت، لقد كان من الضروري مرور خمس سنوات أخرى ليصبح ذلك ممكناً، وقضى “رمضان علي الفارسي” عشر سنوات في السجن بدون ذنب.
قضاها كرجل.
الأخ “أحمد إبراهيم” طلب إحضار الأستاذ “فتحي نصيب” إلى كواليس المسرح، ووضع أمامه أوراقاً وأقلاماً وطلب منه أن يكتب له المعلومات التي يعرفها عن هؤلاء الخونة، وعندما كتب “فتحي نصيب” ما يعرفه من أن فلاناً شاعر، وفلاناً قاصاً، وغيره، أخرج “أحمد إبراهيم” مسدسه ووضعه على رأس الأستاذ “فتحي” مخيراً إياه بين كتابة معلومات عن التنظيم أو الانضمام إليهم، وعندما رفض الأستاذ “فتحي” أن يشهد زوراً، تم إلحاقه بنا، وقضى عشر سنوات في السجن بدون ذنب.
قضاها كرجل.
مسرح مدرسة “شهداء يناير” كان ذلك اليوم مسرحاً للعنف والضرب والركل والإهانة بامتياز؛ فقد تعرض الأستاذ القاص “عمر الككلي” إلى الضرب والصفع وتقطيع الشعر بمقص بيد أحد هؤلاء المعتوهين، وكاد الشاعر “عبد الله زاقوب” أن يحظى بعشر سنوات أيضاً لمجرد أنه حاول أن يتكلم بصوت عاقل رافضاً العنف؛ فأمسك به أحدهم ليجلسه معنا ومن حسن حظه أن أمسك بيده الأخرى شخص آخر ظل يصرخ: لا لا، هذا ثوري، أنا أعرفه، اتركه” وظلا يتجاذبانه حتى تمكن المخلص من جذبه نحوه، وبذلك نجا، تصوروا لو أن هذا المخلّص تراخت يده قليلاً في الجذب!!
العنف بكل أشكاله المادية والمعنوية واللفظية والإهانات القبيحة والجنسية كانت تمارس تحت قيادة “أحمد إبراهيم” وغيره ومنها وصف الأستاذ أحمد إبراهيم لي بأنني مشوه في إشارة لإصابتي بالعرج ، ولكن إذا أصر الأخ “أحمد إبراهيم” على ضرورة إثبات قيامه شخصياً وبيده بالضرب؛ فأذكره بتلك الصفعة القاسية والعنيفة التي وجهها إلى وجه الأستاذ المناضل “مصطفى الهاشمي بعيو” لمجرد أنه حاول أن يتحدث إليه، لقد قال “أحمد إبراهيم” لـ”مصطفى الهاشمي” عملياً هذه هي لغتي التي أتحدثها.
قد يطالبني الأستاذ “أحمد إبراهيم” بالدليل، وهذا من حقه؛ ففوق شهادة عشرات الناس الحاضرين الذين لم يكونوا يعون ما يحدث، أحيله إلى أرشيف الإذاعة في بنغازي والتي قام مديرها آنذاك الأستاذ “مفتاح بوكر” بإرسال فريق مرئي لتوثيق هذا الحدث التاريخي، أطلبه من الأرشيف؛ فلا أعتقد أنهم سيمانعون في إعطائك نسخة منه، نسخة فقط.
أتوقع أيضاً ان يبرر “أحمد إبراهيم” تصرفه ذاك بما يلي: كانت تلك عملية مداهمة لعناصر مضادة للثورة، ولديها تنظيم شيوعي “بالمناسبة كانت هذه هي التهمة الموجهة إلينا من قبل النيابة إثر استيقاظها من النوم بعد ستة أيام من الحبس” وإن قوى الثورة لن تسمح بالمساس بالثورة..إلخ.
دعونا نلقي نظرة على مصير هذا الاتهام عند وصوله إلى المحكمة؛ فلحسن الحظ لم يتم تحويلنا إلى المخابرات للتحقيق، وبالتالي ليست هناك اعترافات حتى منتزعة بالعنف، بل إن أجهزة الأمن لم يكن لديها – كما شهد بذلك في قاعة المحكمة ضابط الأمن “عثمان الوزري” – أية تحفظات علينا وأنهم قد حرروا – بعد حدوث القبض – أمر القبض علينا بناء على توجيهات القوى الثورية، والمثير أن القبض قد تم من قبل أشخاص لا علاقة لهم بالضبط القضائي؛ فعلى ما أذكر كان “أحمد إبراهيم” آنذاك طالباً في الجامعة.
ولمن أراد أن يستمتع عليه بالاطلاع على أوراق القضية رقم 40 / 78 نيابة أمن الثورة، وسيكتشف أن التنظيم الشيوعي في ليبيا يمكن الاستدلال على وجوده بأن المتهم الأول مثلاُ الذي هو أنا لديه عكاز مثل عكاز “لينين”وهذه ليست دعابة أو كلام في الهواء فقد قام السيد بشير تامر وكيل النيابة والمدعى العام في القضية آنذاك والذي طالب بتطبيق عقوبة الإعدام، قام بتقديم صورة فوتوغرافية إلى هيئة المحكمة ” لـ فلاديمير لينين ” وهو يجلس ممسكا بعكازه وذلك لإثبات التشابه بين العكازين ومن ثم إثبات تهمة التنظيم الشيوعي . كما أتهم “إدريس المسماري” بأن لديه سيارة حمراء، وأن “عمر الككلي” يعتقد أن الكتاب الأخضر “ماركسي” وغير ذلك من الأدلة الدامغة على وجود تنظيم سياسي معادٍ للثورة، بل إن “أحمد إبراهيم” نفسه عندما سئل من قبل الدفاع عن دليله على وجود تنظيم، هل هناك اجتماعات؟ محاضر جلسات؟ منشورات؟ مقر؟ غير ذلك؟ قال أمام القاضي: “لو كان عندهم هذا كله، “نجيبوهم لكم هني؟ نصفوهم في مكانهم”
ومع هذا الانعدام الكامل لأية أدلة، كان القاضي “أحمد بن لامين” يستقبل في مكتبه في داخل المحكمة أمين عدل طرابلس آنذاك “عبد السلام علي المزوغي” ليخرج علينا بعد دقائق من خروج الأمين أمامنا ونحن في القفص ليصدر حكمه بالسجن المؤبد على اثني عشر شخصاً.
وقد تم تقديم الطعن في الحكم أمام المحكمة العليا، والتي يحتم عليها القانون نظر الطعن في مدى لا يتجاوز ثلاث سنوات، ولكن مرت ثماني سنوات، ولم ينظر الطعن ؛ لأن القاضي “أحمد بن لامين” قد تمت ترقيته إلى قاضٍ في المحكمة العليا، ربما مكافأة له، وظللنا في السجن حتى أصبح الصبح يوم 3/3/1988.
إن الوقائع الخاصة باستعمال العنف بأنواعه تجاهنا في ذلك اليوم المشهود عديدة، ويصعب هنا الإلمام بها بكل تفاصيلها، ولعل زملائي ممن يتذكرون أشياء أخرى أن يرفعوا حظر الصمت ويدلوا بشهادتهم.
إن ما دعاني إلى الكتابة حول هذه المسألة ليست الرغبة في الانتقام أو التشفي؛ فأنا رجل لا يسمح لي علو نفسي وهمتي بالوقوع في فخ هذه المشاعر السلبية، ولا محاول نبش الماضي لتحقيق مكاسب من ورائه؛ فأنا حفيد الفضيل بوعمر، وبحكم ما حملني به من مجد، أعتبر أن ما وقع لي هو ضريبة كان عليّ أن أدفعها بحكم طبيعة المرحلة التي كنا نعيشها، لكن ما دعاني حقاً للكتابة هنا هو أن هناك من يأتي إلينا بعد ثلاثين عاماً لينكر أحداثاً قام بها ويعلن للجميع أنه طاهر من العنف، نظيف من إيذاء الناس؛ فالمثير للصدمة إننا نحن الضحايا قد سكتنا – لا عن خوف وإنما استشرافاً للمستقبل – واستعوضنا الله خيراً في أعمارنا، وحاولنا أن نعمل من أجل مستقبل أولادنا وأحفادنا، في حين يقوم من اعتدوا علينا بالعنف والمسدسات بين الفينة والأخرى بالخروج علينا بتصريحات تتنصل مما فعلوه بنا.
الأمور مقلوبة رأساً على عقب.
فلو أنهم – ومنهم أحمد إبراهيم – قالوا لنا: لقد كنا صغاراً طائشين استهوتنا شهوة السلطة وجرفنا تيار لم نقدر على صده، وإن ما قمنا به ضدكم كان خطأ، والإنسان رديف الخطأ، لو قالوا لنا ذلك لسامحناهم؛ ففي سماحة نفوسنا وحبنا لوطننا ما يكفي للتجاوز والنظر إلى الأمام، أما الإنكار فلا وألف لا، إذ لا يمكن الخروج من مستنقع سياسة العنف والتخويف والتخوين التي سادت خلال نهاية السبعينات والثمانينات إلا بالقيام بجردها والاعتراف بأخطائها، ليصبح ممكناً التقدم إلى الأمام.
أما أن يكون المرء – كما يحاول أحمد إبراهيم أن يقنعنا – غير قابل للخطأ، وغير قابل التغير؛ فهذا شيء لا يمكن قبوله، إذ أن الإنسان – كابن الزمان والمكان – لابد أن يتغير، سواء اعترف بذلك أم لا، ويكفي دليلاً على ذلك المصطلحات الجديدة التي دخلت على قاموس “أحمد إبراهيم” كحق التعبير، وقبول الاختلاف وغيرها بغض النظر عما إذا كان يعنيها فعلاً أم أنه يستخدمها لزوم المرحلة.
أما المسائل العديدة والخطيرة جداً المتعلقة بأمور وطننا ليبيا – التي يفخر أحمد إبراهيم بإلغاء تدريس خريطتها من مادة الجغرافيا لأسباب قومية – فإنها تتطلب نقاشاً دقيقاً وتفصيلياً، وأنا أتحدى الأخ “أحمد إبراهيم” في مناظرة علنية حول هذه المسائل في أية قناة تلفزيونية يختارها ليكون الحوار فعلاً مفتوحاً وشفافاً وعلنياً أمام الله والناس.
بنغازى-1 فبراير 2009