أضغاث الوحدة وأوهام التقسيم
سالم العوكلي
يقول الشاعر والمفكر تي إس إليوت في كتابه (ملاحظات نحو تعريف الثقافة) ترجمة د. شكري محمد عياد: “لكي تزدهر ثقافة شعب ما ينبغي أن لا يكون شديد الاتحاد ولا شديد الانقسام. فرط الوحدة قد يكون ناشئا عن الهمجية وقد يؤدي إلى الاستبداد، وفرط الانقسام قد يكون ناشئا عن التحلل وقد يؤدي إلى الاستبداد أيضا. وكلا الطرفين يعوق اطراد النمو في الثقافة.”
ليبيا عاشت مراحل مختلفة من النزوعين وفق القوى القاهرة التي تحكمت في هذه الجغرافيا ووفق مصالحها، نزوع مفرط في فرض الوحدة السياسية دون الأخذ في الاعتبار التنوع الثقافي لجهات هذا الكيان، ونزوع مفرط إلى تقسيم هذا الكيان إلى أقاليم متنافسة ومتحاربة أحيانا بادعاء خصوصية كل إقليم الثقافية، وفي الحالتين المتطرفتين كان الاستبداد هو النتيجة المتوقعة لهذا التطرف.
تخبرنا الجغرافيا وينبهنا التاريخ إلى أن الأقاليم (غرب، شرق، جنوب) واقع ثقافي واقتصادي واجتماعي غالب، وفي الكثير من الحقب أيضا كان واقعا سياسيا.
ورغم الرأي السائد الذي يحدد اللغة والدين، كعاملين حاسمين في تحديد الهوية الثقافية، أو تمييز ثقافة شعب ما عن ثقافة شعوب أخرى، إلا أن التاريخ والتراث وعناصر الثقافة المختلفة في صنع الهُوية الثقافية لها دور في تعدد الثقافات داخل هذه الهوية، وتعدد الثقافات في مثل الحالة الليبية تقف وراءه عوامل متعلقة بالجغرافيا ومدى الانفصال المكاني بين التجمعات السكنية، وبتأثير ثقافات الجوار على هذه التجمعات المتباعدة محليا، فضلا عن تنوع الأعراق وثقافاتها ضمن مشتركي الدين واللغة، وقد يؤدي هذا التنوع إلى مطالب سياسية أو محاولات انفصال عبر تكوين كيانات سياسية إقليمية.
من ضمن هذه التوجهات الانفصالية تكونت دولة اولاد امحمد في فزان بداية القرن السادس عشر، وجمهورية طرابلس أو الجمهورية الطرابلسية في الغرب، وإمارة إجدابيا ثم إمارة برقة في الشرق الليبي، بداية القرن العشرين، فضلا على ما حصل من انشقاقات متعددة في الدولة القرمانلية بين الغرب والشرق والتي كان يقضى عليها بحروب وبتدخلات أجنبية، وما صاحبها من خلخلة ديموغرافية كانت الغاية منها في الغالب خفق محاليل النسيج الاجتماعي الليبي من أجل خلطها بما يكفي لمنع دعوات الانشقاق المتكررة.
الواقع الجغرافي في أرض مترامية الأطراف تفصل أرخبيلها السكاني مساحات شاسعة من الرمال فرض نوعا من انشداد هذه الأقاليم نحو ثقافات مختلفة. الشرق تجاه الثقافة المصرية أو الشرق أوسطية عموما (الشام) . الغرب انفتح تجاه الثقافة المغاربية (تونس خصوصا) والجنوب تجاه الثقافة الأفريقية جنوب الصحراء.
وأدت هذه الاتجاهات أو التوجهات إلى خلق فسيفساء ثقافية تخللتها ثقافات إثنية محلية دافعت عن ثقافتها ولغتها ومذهبها رغم الإحساس المضمر بأن العقيدة الجامعة واللغة المهيمنة كانا وراء الانتماء لهذه الجغرافيا التي عينت حدودها السياسية وسميت ليبيا مع الغزو الإيطالي بداية القرن العشرين .
فهل هذا التنوع واختلاف الثقافة واقع حاولت تزييفه حمى الشعرات الوحدوية أو نمو الأيديولوجيا القومية التي تعتبر نفسها من فرض الدين واللغة في هذا الحيز الجغرافي؟
إذا ما حاولنا تحديد خصائص تتعلق بطبيعة الأنشطة الفنية الشعبية باعتبارها مؤشر لتعدد ثقافي، وكمثال بسيط، فبإمكاننا تحديد هويات فتية ثقافية يختص بها كل إقليم قد تعطينا مؤشرا لهذا التمايز:
غناوة العلم في برقة أو الشرق الليبي . فن المالوف في طرابلس، أغاني الواحات الجنوب وإيقاعاته المميزة والخاصة به. وهي خصائص يبدو أن لها جذورا بعيدة في الماضي. وهو اختلاف غير مرسم الحدود بشكل حاسم حين نلمس تداخلا جزئيا بين هذه الفنون عبر الأقاليم المختلفة.
فن المالوف استطاع فنان مثل حسين عريبي وفرقته المعروفة فنا وطنيا تواصل معه الليبيون في جل المدن ، وإن كان الفارق أنه في طرابلس ظل فنا شعبيا تُحيا به الأعراس، بينما تذوقه في الشرق، مثلا، كان مقتصرا على النخبة نظرا لرقي هذا الفن .
في نهايات القرن الثامن عشر وبدايات التاسع عشر، ومع ما شهدته تجارة العبور بين أفريقيا وأوروبا عبر ليبيا من نشاط كثيف تحولت (مرزق ) في الجنوب إلى محطة تجارية مهمة، جعلت الكثير من التجار ورجال الأعمال يستقرون بها، وبسبب حاجتهم إلى الترفيه وحاجة السكان إلى الرزق تكونت فنون موسيقية وفرق لتلبية هذه الحاجة، ما جعل الأغاني والموسيقى تزدهر ليرحل هذا الفن إلى مدينة بنغازي ويصبح فنها الشعبي الشائع الذي تحيا به الأعراس بعد أن أضافت له المدينة التي تقطنها تقريبا جميع التكوينات الاجتماعية الليبية نكهتها الخاصة واسميه (المرسكاوي) أو المرزقاوي.
بينما الثراء الموسيقي الواسع في واحات الجنوب انتقل إلى الساحل دون أن يفقد نكهته الجنوبية المرتبطة بطبيعة الواحة كجزيرة وسط الصحراء، مع إمكانية تلمس تأثير الانشداد الإقليمي واضحا في هذه الفنون، تجاه مصر أو المغرب العربي أو الوسط الأفريقي.
ورغم ذلك احتفظت الأقاليم ببعض خصائصها فيما يخص الغناء وطرق إحياء الأعراس والآلات الموسيقية والرقص والملابس المصاحبة.
على المستوى السياسي وبعد هيمنة أيديولوجيا القومية العربية في العقود الماضية وسعيها إلى تعريب كل المكونات في ليبيا انداحت الهوية الليبية في محيطها العربي لدرجة تحريم استخدام اسمها، وشعر سكانها غير العرب بمحاولة قمعية لإقصاء ثقافتهم، بينما خون المدافعون عن هذه الهوية وتعرضوا لمتاعب كبيرة ، من محاولة اغتيال الكاتب اللائكي سعيد المحروق إلى محاولة إسكات الروائي الطارقي إبراهيم الكوني ثم محاولة احتوائه لعد أن أصبح روائيا عالميا.
مع سقوط النظام السابق برزت هذه الإثنيات بقوة للتأكيد على تميزها الثقافي دون أن تفرط في انتمائها للهوية الليبية الجامعة، وركزت جهودها على صياغة دستور يضمن لها حقوقها الثقافية، وما حصل في النهاية عدم مشاركة الأمازيغ في هيئة صياغة الدستور نتيجة عدم حصولهم على ضمانات حاكمة تفضي بهم لمناقشة التفاصيل أمام احتدام النزعة القومية ومع قلة أصواتهم داخل الهيئة.
بينما إقليم برقة خاض معركته مع طرابلس على جميع الجبهات، ليس لأسباب ثقافية ولكن لدوافع تتعلق بحالة من الإحساس بالظلم التاريخ نتيجة إقامة المركزية في العاصمة طرابلس على مدى حقب طويلة، وبالتالي كانت أسباب الصدام للإثنيات في الغرب والجنوب ثقافية ماضوية، بينما الأسباب في برقة تتعلق بالمخاوف المستقبلية.
وفي الحالات جميعا فشل الدستور في احتواء هذه الاختلافات، بل عزز من المخاوف بشكل واضح خصوصا وهو يتعامل مع هذه المكونات بمفهوم الأقلية.
والاستبداد يتأهب من جديد للانقضاض على الجميع ، سواء في خطاب من يبالغون في الوحدة الوطنية أو من يتطرفون في الدعوات الانفصالية