أشتات الذات
عمرأبوالقاسم الككلي
(أطراف من سيرتي الذاتية)
أعتقد أن ذات أي شخص منا متشكلة من جملة مكونات، وأن الوحدة الناظمة لهذه المكونات هي منظومة الترابطات والتفاعلات القائمة بينها. أي العلاقات. لعل الأمر يشبه، إلى حد بعيد، وضع الذرة حيث تجمع أجزاءها تجاذباتُ قوى موجبة وسالبة، أي متعارضة، تحفظ وحدتها، أو بنيتها.
إلا أن الأمر في الذات يختلف من حيث قوة أو ضعف السيولة التي تحدث لها في سياق حياتها ومعاناتها وما يطرأ عليها من تبدلات جراء ذلك.
حين كنت صغيرا عشت السنوات السبع الأولى، تقريبا، من عمري في عزلة شبه تامة. إذ كنا نسكن منطقة ريفية وحدنا ونادرا ما يجاورنا جيران مؤقتون. لذا كنت ألعب وحدي أو مع أختي الأصغر مني، ولم يكن ذلك ممتعا.
لست أدري كيف خطر لي، في تلك الظروف، وفي عمر مبكر، أن أخترع شخصيات وأتخيل أنني ألعب معها.
في البداية اخترعت شخصيتين متنافرتين: بوزديع وحوماني!. ولست أدري من أين استمددت هذين الاسمين. المهم في الأمر أن بوزديع كان أنا!. حد أنني كنت أجيب أحيانا من يسألني عن اسمي بأن اسمي بوزديع!. وحتى الآن يناديني أحد أقربائي أحيانا ممازحا بهذا الاسم. لكن بوزديع هذا كان يمتلك أيضا بعض الاستقلالية في علاقته مع حوماني (فلم تكن له علاقة بأي أحد عداي وحوماني)، الذي كان خصمه الدائم، وبالتالي خصمي أنا. كان موقفي دائما مع بوزديع ضد حوماني.
مع مرور الوقت أصبحت مواضيع الخلافات والمحاورات والمفاوضات بيني وبوزديع، من جهة، وحوماني، من جهة أخرى، مكرورة وقاحلة ومملة. لذا اخترعت شخصيتين أخريين، رديفين وقرينين للشخصيتين السابقتين: بوزديع بن علي وحوماني بن علي!. ورغم اشتراكهما في اسم الأب فإنهما لم يكونا أخوين. كان الأمر مصادفة محضة. وبالطبع كان بوزديع بن علي ظهيرا لبوزديع “الأصلي” وبالتالي لي. إلا أنه لم يكن أنا. وكان حوماني بن علي ظهيرا لحوماني “الأصلي” خصم بوزديع وخصمي. كان الانتصار على الحومانيين سهلا، لأننا كنا نتفوق عليهم عدديا، فنحن ثلاثة وهما اثنان فقط. إلى جانب أننا كنا أقوى منهما جسديا ونتفوق عليها عقليا! (مع أخذي في الاعتبار كقوة كاسحة جسديا وعقليا).
هذا المثال يوضح عدم التمسك بوحدة الذات. ففي الذات قوة، أو قوى، تسعى إلى الانشطار، مثلما أن بها قوة أو قوى تعمل باتجاه التماسك والوحدة. وحدة البنية التي تمثلها الذات. إن خلقي شخصا آخر، نظيرا أو بديلا لي، يشي بالرغبة في تعدد وجوه الذات، وما يؤكد أن هذا الميل متأصل في الذات البشرية هو تماهي البعض (على الأقل) مع بعض الشخصيات في ما يقرأونه من قصص وروايات ويشاهدونه من أفلام، أو حتى مع بعض الشخصيات الواقعية في الحياة، التي تستحوذ على إعجابهم.
تفلت القدرة على ضبط هذا الميل إلى التعدد في الذات في حالات الفصام، حيث تطفو الشخصية الخفية الكامنة لتعبر عن نفسها بشكل صريح، وتكون مناقضة تماما للشخصية الظاهرة. وبالتالي تنهار بنية الذات.
* من مقدمة كتاب بنفس العنوان قيد الإعداد.