أسرى يعانون… وغيرهم يستفيدون
بكر عويضة
فاجأني الصديق، فيما نحن في الطريق للعشاء، فسألني ما أرى بشأن أحدث إضراب عن الطعام بدأه أسرى فلسطينيون في سجون إسرائيل، يوم الاثنين قبل الماضي. أجبت أنني، مبدئياً، لستُ أتفق مع أي إجراء يضر المرء وقد يؤدي به للتهلكة، ذلك أن ما نشأت عليه منذ الصغر،
علمني المبدأ القائل إن البدن أمانة لدى المخلوق. لم يصبر رفيق المشوار للمطعم كي أكمل، فقاطعني لافتاً نظري إلى أن الأمر متعلق بقضية وطن، وأن إضراب ألف وخمسمائة أسير بسجن عدوٍ لهم عن الطعام، من شأنه لفت نظر العالم بأسره لقضية شعبهم. متفقاً مع منطق محاججة الصديق، أضفت إليها أن الخُلُق الإنساني ذاته، إضافة للواجب الوطني، يوجبان احترام شجاعة كل مُضربٍ عن الطعام لأجل مبدأ راقٍ، سواء كان يخص وطناً بأكمله، أو دفاعاً عن حقوق أقلية أصابها الظلم في مكان ما – ثمة مثل على ذلك بخاتمة المقال – إنما هذا كله يجب ألا يمنع أحداً من التذكير بحقيقة أن إلحاق الأذى بالذات، عمداً وعن سابق قصد، كما الحال في حالات الانتحار، هو أمر نُهي عنه، بكل الشرائع.
ليست هذه أول مرة يقدم فيها أسرى فلسطينيون على صوم مفتوح الأجل، والأرجح أنها ليست الأخيرة. ومن الواضح لكل ذي بصر وبصيرة، أن أولئك الشبان ليسوا راغبين طوعاً في تجويع أنفسهم لأجل الجوع في حد ذاته. كلا، بالتأكيد، ولو أن تعامل سلطات سجون إسرائيل كان أكثر رشداً مع من تعدهم مجرد سجناء، فيما يراهم كل أهليهم وجموع شعبهم أسرى في وطن محتل، لما اضطر أي منهم لأي إضراب عن الطعام، ولما فتحت مطالب مشروعة للمضربين الأبواب أمام زعيق الزاعمين بمساندتهم من منصات أحزاب وحركات، ومنابر خُطب وأشعار، لتوظيف إضرابهم ضمن أجنداتهم السياسية أو الإعلامية، بينما تراهم حريصين ألا تفوتهم أطايب الطعام والشراب بمشارق الأرض ومغاربها، مع ملاحظة وجود استثناءات تستحق ذكرها والإشادة بها، كما في مثل طيب ضربه صحافيون في الجزائر أعلنوا الصوم من جانبهم تضامناً بالفعل لا بالقول مع المضربين في سجون إسرائيل. والحق الواضح تمام الوضوح يقول، باختصار وبلا تعقيد، إن المطلوب من حكومة تل أبيب هو أن تنصاع للقوانين والشرائع الدولية في تعامل سلطات سجونها مع من تعتقل من الفلسطينيين، فلا يجري تمديد ما يُسمى «الاعتقال الإداري» إلى أجل غير مُسمى بلا أي سبب، ولا يُعاقب أسرى وعائلاتهم بمنع الزيارات عنهم فترات قد تطول أسابيع، وربما بضعة أشهر، أو أحياناً بضع سنوات. حقاً، لو أن ضمير التعامل الإنساني ساد العلاقة بين السجان الإسرائيلي والسجين الفلسطيني، لما نشأت في الأصل أي ضرورة لهكذا اضطرار من جانب الأسرى الفلسطينيين.
في السياق، ربما يفيد التذكير أن إشهار إنسان أعزل لسلاح الإضراب عن الطعام بقصد لفت أنظار الآخرين، اشتهر بعد إقدام ماريون والاس دنلوب على رفض تناول أي طعام أو شراب، احتجاجاً على اعتقالها من قبل الشرطة البريطانية. حصل ذلك عام 1909، السيدة دنلوب كانت من أوائل المُطالبات (SUFFRAGETTE) بحق المرأة في خوض الانتخابات واستمر إضرابها إحدى وتسعين ساعة، اضطرت بعدها السلطات لإخلاء سبيلها. أما الشخصية الأشهر في الزهد بالمنصب السياسي، والأزهد في تناول الطعام حتى بلا إضراب عنه، فهو غاندي. أضرب المهاتما مرتين، الأولى سنة 1943 احتجاجاً على الاحتلال البريطاني واستمرت واحداً وعشرين يوماً. الثانية سنة 1945 وكانت تحدياً لزعماء الأحزاب الهندية، السيخ والهندوس والمسلمين، كي يتفقوا معه على ما فيه مصلحة الهند، وإذ أذعن الزعماء بعد خمسة أيام من التداول لتحدي مهندس غاندي، أنهى النباتي النحيف إضرابه فتناولوا معه – كما أتصور – ما تيسر من الخضراوات. أما الممثلة الأميركية القديرة مَيَا فارو، فضربت مثلاً في التضامن الإنساني حين أضربت عن الطعام واحداً وعشرين يوماً سنة 2009 احتجاجاً على طرد وكالات الإغاثة من دارفور في السودان.
ترى، هل في تحدي المهاتما غاندي لزعماء أحزاب بلده بصومه عن الطعام حتى يتفقوا وينهوا خلافاتهم لما يحقق مصلحة شعبهم، ما يفيد المضربين في سجون إسرائيل؟ ثم أليست هي الحياة هكذا، بكل أطيافها، أناس يعانون وغيرهم يتفننون في الاستفادة من معاناتهم؟ بلى.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
صحيفة “الشرق الأوسط” اللندنية