أسباب انجذاب الجمهور العربي للمسلسلات الرديئة فنيًّا
الإنسان بطبيعته يحب التطور والارتقاء، وعلى الدوام يحاول بشتى الطرق التفوق على الآخرين، ومنافسة نفسه السابقة حتى.
لكن صورة الارتقاء تختلف باختلاف الهدف من الارتقاء نفسه. حاليًّا نسبة كبيرة من دول العالم قائمة على النظام الرأسمالي البحت، والذي يهتم بجلب المال فقط. ولذلك صُبغت الصناعات الترفيهية بالرأسمالية، وأصبح الهدف الرئيسي من “الارتقاء الفني” هو المال.
وهنا ينقسم صُنّاع الفن إلى نوعين: نوع يصنع فنًا ينافس به أكاديميًّا (ويحقق ربحًا ضئيلًا)، وآخر يصنع فنًا لا ينافس به أكاديميًّا (لكن يحقق ربحًا ضخمًا للغاية).
وللأسف، في البلدان العربية يكون النوع الثاني هو الأغزر والأكثر تواجدًا على الساحة الفنية. مع استقرار المسلسلات في قلوب وعقول المشاهدين بعد ظهور واستيطان التلفاز في كل منزل ومقهى وشارع؛ استقرت أيضًا المسلسلات. ذلك الاستقرار تمثل في قالب عام تُصنع عن طريقه الأعمال التي تخدم مآرب النوع الثاني؛ جمع المال.
القالب العام مشكلته الأساسية هي النمطية والتكرار والتأطير المُملّين؛ ولهذا يمكن رؤية 50 مسلسلًا في العام الواحد على الصعيد العربي حصرًا، وربما 3 أعمال يمكن القول عنها أنها خرجت من القالب المعروف للصناعة.
فما هي مفردات هذا القالب القاتل لصناعة التلفاز العربي؟ والتي تجذب المُشاهد العربي لتلك النوعية من المسلسلات الهزيلة والتي لا يمكن وصفها إلا بـ “النسخ المكررة”؟
توظيف الميراث كدافع للجريمة
أي عمل في التلفاز بشكلٍ عام يجب أن يبدأ بفتيل آخذ في الاحتراق؛ يشتغل على إثره ينجذب المشاهد، وبفضله تأخذ الأحداث في التصاعد مع الوقت.
وفي أعمال الجريمة، بالتأكيد البداية تكون جريمة معينة؛ سواء حدثت الجريمة مباشرة، أو كان لها تمهيد جيّد عبر بناء أرضية جيدة للشخصيات ودوافعها. لكن سواء كان المسلسل تابعًا للحالة الأولى أو الثانية، من الضروري أن يكون هناك تنوع وابتكارية في الدافع.
صنّاع الأعمال العربية مجملًا لا يتعبون أنفسهم في ابتكار حبكات جريمة ذات دوافع مبتكرة أو غير تقليدية، دائمًا وأبدًا يميلون لاستخدام بطاقة (الإرث). عشرات العشرات من المسلسلات العربية تدور حول الميراث بشكلٍ أو بآخر.
يموت الأب (في الغالب ما يتم تهميش الأم نظرًا لكونها في نظر أغلب العرب ليست مصدرًا للمال ولا صاحبة ثروة) ثم يتم تقسيم أمواله حسب القانون، فيذهب جزء ضئيل للأنثى، والباقي كله للإخوة الذكور. وهنا تحاول الفتاة الانتقام من أخويها الذين لا يريدان تقسيم الميراث بعد ذلك بالتساوي بينهم جميعًا.
أو ينقسم الميراث بالتساوي بين ذكرين، لكن يطمع أحدهما في حصّة الآخر، فيسرق المال أو يتخلص من أخيه عن طريق السجن.
وبالطبع المظلوم هنا يقضي فترة سجنه كلها ليحاول بعدها الانتقام من الإخوة الأنذال الذين أكلوا وشربوا طيب الأكل والشراب، بينما هو يتجرع غصص الألم والحسرة في زنزانة قاتمة. الأعمال العربية توظف تلك التوليفة النمطية في أي قصة يمكن لأي أحد أن يتخيلها؛ مما يجعل كل الحبكات ما هي إلا قوالب ذات هالات مختلفة، لكن جوهرها واحد.
وثبات الجوهر يعني نمطية الدوافع ونمطية ردود الفعل، وبالتبعية نمطية فرحة المشاهد لنجاح البطل في استرداد حقه من الإخوة الظالمين في نهاية المسلسل. فكرة مستهلكة إلى أقصى حد، وعلى الدوام تُفرح المُشاهد وتسعده أيّما سعادة.
تشويه الحب بموجب العادات والتقاليد
إذا عانى الكاتب من الفقر الإبداعي، أول ما قد يلجأ إليه لخلق أحداث جديدة وجذب انتباه المُشاهد؛ هو العلاقات العاطفية. مجملًا، العلاقات تعمل على جذب الانتباه نظرًا لكونها بين طرفين، وبها عشرات المتغيرات التي قد تخلق أحداثًا بها ألف احتمال واحتمال. لكن السيئ هو استغلال العلاقات بمنظور التنمر والتنكيل بموجب معيار سطحي وغير مبرر.
فمثلًا إذا دخل البطل في علاقة مع فتاة أخرى من طبقة اجتماعية أدنى منه، فجأة يظهر أهل البطل على الساحة ونجد صراخهم يصم الآذان بعبارة واحدة: “هذه ليست من مستواك”.
فكرة العلاقات يمكن قولبتها بأي طريقة وشكل. الفتاة تحب الفتى، لكن الأخير لا يحبها؛ والعكس وارد. الفتى يسعى للدخول في علاقة مع فتاة تحبه وحياتها مفصلة على حياته، لكن أم كليهما تكره الأخرى نظرًا لكون واحدة ترتب بيتها بطريقة لا تروق لها. أسباب واهية وسطحية واعتباطية إلى أقصى درجة، وغالبًا ما تكون مادة لصنع نوع رخيص من الكوميديا.
وإذا لم يتدخل الأهل في الموضوع، سيبدأ المجتمع كله بالتدخل في الموضوع. سيسخرون من شاب طويل مع شابة قصيرة، سيستهزؤون من فتاة سمراء مع فتى أبيض، وسيقهقهون عند رؤية أحد الطرفين ممسكًا بيد أو ذراع الآخر في الشارع؛ كدلالة على انعدام النخوة من قبل الذكر، وانعدام الحياة من قبل الأنثى.
لقد تم تشويه الحب بكل ما تحمل الكلمة من معنى، وفي جميع التصنيفات الفنية، والأمر ليس حكرًا على الكوميديا العربية الهزيلة. أي تشويه لأي شيء في الأساس طبيعي وصحي؛ ليس دليلًا إلا على فقر صانع العمل، أو تكاسله صنع عمل جيد من الأساس.
وهذا إن دل على شيء، فيدل على أن جزءًا كبيرًا من المجتمع العربي متنمر بطبعه، متدخل في شؤون الآخرين بالفطرة، وغير قادر على التفكير بعقلانية بعد.
النزاعات الأسرية من العدم لخلق أحداث جديدة
من العناصر الأثيرة في المسلسلات، نجد بالتأكيد (الأسرة).
في العادة تمثل الأسرة ركنًا أساسيًّا من أي حبكة في أي تصنيف فني، وليس على مستوى العرب فقط، بل على مستوى العالم كله. الأسرة قادرة على التفاعل مع أبطال الأحداث بطريقة تخلق منعطفات جديدة في القصة، وتساعد على بناء الشخصيات الأساسية مع الوقت؛ مما يجعل العمل مثيرًا وجاذبًا على المدى الطويل.
لكن هناك أمر مهم، يجبّ ألّا تكون الأسرة مسممة – Toxic (في كل الأعمال). فمثلًا من الطبيعي أن نجد أبًا متسلطًا وأمًا حنونة، أو العكس، على مستوى مسلسل أو اثنين. لكن من غير الطبيعي أن نجد نفس التركيبة ونفس الفكرة، في كل الأعمال على مستوى العام كله، بل على مستوى أعمال ماضية كذلك. هنا يبدأ الشك في الظهور، ويبدأ المشاهد في تدارك أن الذي أمامه الآن في 2020، ما هو إلا نسخة ذات تصوير أفضل من مسلسل آخر صدر في 2019.
ربما تجد الأهل متناحرين على الدوام نظرًا لوجود ابن فاشل في الثانوية العامة، أو فتاة تواعد الشباب باستمرار. وأيضًا ربما يكون للمقهى جزء من الكعكة، وتتم رؤية الزوجة تعاني من تكاسل وجلوس زوجها طوال اليوم على المقهى يدخن الشيشة، بينما طلبات المنزل لا يستطيع شراءها الأبناء المنعزلين عن الواقع في فقاعاتهم الخاصة.
وأيضًا يمكن في المنتصف رؤية الأب وهو يشتكي من الجفاف العاطفي للأم، أو وزنها الزائد والذي “يسد النفس”، والعديد من الأشياء الأخرى التي بالمعيار الأخلاقي تُعتبر تنمرية وغير إنسانية تارة، وغير مهنية أو أكاديمية أو فنية تارة أخرى؛ نجدها في الأعمال العربية التي يحبها الجمهور الذي حياته في الأساس قائمة على تلك المشاكل غير المبررة والسطحية.
موت الوالد وكليشيه صنع نسخة مصغرة منه
هذه هي البداية التي يمكن من الممكن رؤيتها في أغلب الأعمال الرمضانية التي تصدر كل عام؛ وبشكل ممل في الواقع.
يجب أن يبدأ المسلسل بموت الوالد تحديدًا، وبناء عليه يقرر الابن أن يصير مثل والده (الذي في الغالب كان عمدة المدينة أو رجلًا ذا شأن)، أو أن يصنع لنفسه شخصية مختلفة تمامًا عن والده؛ كي لا يُعايره أهله وذويه بكونه نسخة مكررة عنه.
ولا يكتفي صانع العمل بوضع تلك البداية الكليشية إلى أقصى حد فقط؛ بل أيضًا يتعمَّد ذكرها على مدار حلقات المسلسل، لتذكير المشاهدين بأهمية والده في حياته. والشيء الأكثر استفزازًا وضعفًا، هو إعمال ذلك التذكير عن طريق إعادة عرض مشهد الموت أو بكاء البطل (والذي عُرض في أوائل الحلقات بالفعل).
بينما تجسيد الحزن أو الفلاش باك عمومًا، يتم في الأعمال الجيدة باحترافية، وذلك عن طريق تصوير مشاهد جديدة جمعت البطل مع والده في الماضي، وهنا يستغل الكاتب الأمر لتسليط الضوء على جزء غير مكتشف من حياة البطل بعض؛ مما يسمح له بوضع قطع جديدة في الأحجية دون أن يلاحظ المُشاهد أي شيء.
ما يحدث في المسلسلات العربية للأسف عبارة عن مهزلة، الكل يقلد الكل، ونادرًا ما يوجد إبداع وتفرّد. الاقتباس وارد أجل، وكذلك مسموح؛ لكن النسخ الحرفي لجوهر الأفكار لا يدل إلا على فقر الكاتب، ونمطية الجمهور.