أسئلة وأجوبة*
بيير ماشري
ترجمة: عمر أبو القاسم الككلي
ليس ثمة وصف محدد دقيق لمشروع النقد. ينبغي أن يوجد، بالأحرى، تبرير عقلاني، تَمَظْهُرٌ يمكنه حيازة صيغة استنتاجية، تطبق منهجا ملائما على الموضوع object محل الاهتمام. دون أن ننسى، بالرغم من هذا، أنه لا المنهج method ولا الموضوع معطيان مسبقا، وإنما يتبادلان تحديد بعضهما. فالمنهج ضروري لبناء الموضوع، إلا أن سلطة المنهج مشتقة، هي ذاتها، من وجود الموضوع.
القضية بهذا الشكل: الصيغة العقلانية السليمة لأي نشاط يمكن أن توصف فقط بتحديد موضوعها ومنهجها. إلا أن هذا التحديد، بدوره، يعتمد على الممارسة، وهكذا على المعرفة المرتبطة بهذه الصيغة العقلانية. كيف يمكن لنا الخلاص من هذه الدائرة؟.
سأظل أصر على أن الموضوع والمنهج يتيحان تحديد ماهية صيغة من صيغ المعرفة عقب الحدث، طالما أنها مبدأ doctrine يقدم معرفة متلاحمة، ولكن ليس مادامت فعل اكتشاف. الموضوع والمنهج يُعرِّفان بوضوح المعرفة التي أنتجت للتو، إلا أنهما لا يستطيعان أن يظهرا مباشرة كيف أنتجت أو قوانين إنتاجها: بعبارات أخرى، الشروط الفعلية لإمكانيتها.
وإذن، لكي نعين صيغة معرفية ما، بدلا من محتواها الكمي، علينا البحث عن الشروط التي يسرت أمر انبثاق هذه المعرفة. وبدلا من اعتبارها مبدأ، نظاما من الإجابات، سنحاول صياغة السؤال المبدئي الذي يعطي معنى لهذه الإجابات. عندما تكون الإجابات واضحة في عمومها فإن السؤال الذي جعلها تنهض عادة ما يجري تجاهله، ويختفي تحت الإجابات، وسرعان ما ينسى. لاكتشاف نظرية تخص شكل معرفة ما، فإن السؤال المركزي المخفي ينبغي أن يجري إيضاحه. لذا، فبدلا من إنشاء قائمة بمباديء نقدية، فإن الأسئلة التي من المفترض أن تجيب عليها هذه المباديء ينبغي أن تكشف. السؤال الأول ينبغي أن يكون: ما هو النقد الأدبي؟ وينبغي أن يصاغ بدقة فائقة، وإلا فإنه سيكون مجرد سؤال زائف وأجوف، سؤالٍ تجريبي *empiricist. لكن، بما أن التتابع الكامل للإجابات يقف في الطريق، فليس من السهل العودة للوصول إلى هذه الأسئلة الأولى غير البسيطة أبدا. عمليا لا يوجد سؤال واحد، ولكن عدة أسئلة. النشاط التأملي غير متمحور بعناية حول مشكلة مفردة، على الرغم من أننا قد ننقاد إلى الاعتقاد بهذا بسبب الصورة البارزة لمبدأ معين. على العكس، التاريخ الحقيقي للأسئلة يكشف عن أنها مبعثرة ومتقطعة. الوضع الحالي للمشكلة، إذا ما استخدمنا التعبير بمعناه الحقيقي بدلا من الإشارة إلى غموض خارج العملية التاريخية supra-historical حاسم ومحايد، يمثل فعليا ترابط عدة أسئلة. ليس ثمة سؤال مرجعي، وربما لم يوجد في أي وقت سؤال منعزل.
عندما يُحرَّك السؤال على هذا النحو من قبل التاريخ الذي يضفي عليه المعنى والضرورة، لا يختزل إلى تفتح خطي لسؤال معطى، إلى تطور تقدمي انطلاقا من وضع أولي. السؤال الذي يدشن تاريخا ليس بسيطا ولا معطى مسبقا. إنه يحتوي عدة مصطلحات تستخدم لتوليد مشكلة معقدة عصية على التجنب، مشكلة لا يمكن إنهاؤها بإجابة مفردة.
أوضح جاكبسون في نص مهم أن “التزامني synchronic ليس مرادفا للثابت static”: فالسؤال التاريخي (ويمكننا تسميته بأنه “بنية”) لا يتضمن فقط إمكانية التغيير لكنه حلول incarnation وانتقاش inscription حقيقي لهذه الإمكانية. لا ينبغي الخلط بين “نُقش” و “كتب” (بالمعنى المُفقر والتقليدي لـ “سُجل”). سؤال البنية ليس تجسيدا materialization مؤخرا، حلولا متأخرا، لمعنى سابق الوجود. وإنما هو الشرط الواقعي لإمكانيته ذاتها. التاريخ يعتمد على السؤال والأسلوب الذي يصاغ به. على الرغم من أن السؤال يستحضر مصطلحين معا، فإنه ليس مرادفا للفوري وليس دليلا على استمرارية خطية. فحين يطرح السؤال يمكن تتبع تاريخ واقعي، غير مشوه بتوقع أسطوري. لقد اتضح هذا بشكل مقنع في تاريخ العلوم، وبذا ينبغي أن يكون ممكنا في تاريخ النقد الأدبي.
ينبغي أن نكون، بدون شك، واضحين بخصوص معنى هذه المصطلحات: فمن جانب يوجد الشرط [الظرف] condition، ومن الجانب الآخر التعقيد. فحين يُقترح تتبع تاريخ ما من خلال صياغته كسؤال أولي، فإن هذا التدشين لا ينبغي أن يعطى معنى البداية أو الأصل. في هذه الحالة، فإن تعارضَ قبل وبعد يكون غير دقيق: فالسؤال لم يعطَ قبل التاريخ، لأنه ينبغي أيضا أن يكون قد بني تاريخيا.
السؤال أطلق في نفس اللحظة مع التاريخ، على الرغم من اختلاف المستوى. الشرط ليس سببا تجريبيا متعلقا بالسيرورة process، يسبقها في علاقة السبب بالنتيجة، بل هو في الواقع مبدأ principle لا يمكن لهذه السيرورة بدونه أن تصير موضوعا للمعرفة. معرفة شروط السيرورة هذه، هي برنامج حقيقي للتحري النظري – إظهار أن التغيير والفورية (شرطا terms السؤال) ليسا متنافرين، إنما هما حليفان ضرورة.
وإذن فـ “الشرط” هو موضوع نظري، ولكنه لهذا السبب، نتاج لمجرد التأمل. وعلى الخصوص فإن تعقده أمر واقعي. إنه لا يُفَصِّل عبر تلك التمييزات المثالية التي يقدم التناقض الهيغلي بمقتضاها أفضل مثال ومحاكاة caricature كاملة، في نفس الوقت. إن افتراض أن السؤال النقدي ليس بسيطا، وإنما هو معقد، لا يعني أنه ينطوي على صراع داخلي يُنتِج، بمقتضى التكثيف والتشويه والتطور الداخلي والعزم resolution، تاريخه الخاص.
المبدأ النظري الذي يمكننا من إنتاج نظرية عن التاريخ الواقعي وصياغة نصها، لا يوجد (كما رأينا للتو) لا قبل التاريخ ولا بعده. وعلى الغرار ذاته، التاريخ ليس محتوى في السؤال، ولا السؤال في التاريخ. السؤال منفصل دون أن يكون مستقلا؛ إنه يظل قائما في مستوى خاص به. تُظهر التجربة [الخبرة] experience ، في ما يتصل بموضوعنا، أن التاريخ يمكن أن يصنع بدون نظرية تخصه. فالتفسير الهيغلي للسيرورة التاريخية يتجه إلى الخلط بين التاريخ والنظرية، بدعوى تنظير الخبرة (تقديمها كتجسيد للفكرة). وهذا يؤدي إلى التناقض لأنه يجعل النظرية تجريبية.
الخلاصة، تاريخ المباديء النقدية يمكن فهمه فقط حين نحدد السؤال المعقد الذي هو شرط ذلك التاريخ.
* من: بيير ماشري، نظرية للإنتاج الأدبي، ترجمه عن الفرنسية جوفري وول. مع مقدمة جديدة بقلم تيري إيفلتون، ولاحقة جديدة بقلم المؤلف، كلاسيكيات روتلدج 2006.
Pierre Macherey, A Theory of Literary Production, Translated from the French by Geoffrey Wall. With a new introduction by Terry Eagleton and a new afterword by the author, Routledge Classics 2006.
** يُقصد بالتجريبية empiricism الانطلاق من الخبرة المباشرة الحسية المباشرة دون الاستعانة بالنظريات.