أسئلة الكتابة في زمن التغيير.. إلى أي مدى انشغلت بالإنسان؟
خاص 218| خلود الفلاح
لا يمكن إنكار التغيّر الذي طرأ على الأدب العربي، تماشيًا مع ما يحدث في منطقتنا، واقع الثورات والحروب والظروف السياسية المتغيّرة.
هناك الكثير من الأسئلة المطروحة حول علاقة النصّ الأدبي بالواقع، وإن كانت العملية الإبداعية تختلف من شخص لآخر؛ فقد يكون عامل الاستقرار ليس قاعدةً ثابتةً، إذا أخذنا في الاعتبار ما أنجزه أدباء عاشوا الحرب بتفاصيلها المرعبة، وكتبوا عنها وأصبحت مؤلفاتهم وثيقةً مهمةً لما حدث، مثال ذلك الروائي أرنست همنغواي ورواياته “وداعًا السلاح”، و”لمن تقرع الأجراس”، ورواية ” تحية لكتالونيا” للروائي جورج أورويل.
في هذا الاستطلاع؛ طرحنا أسئلةً على كُتّاب من ليبيا، واليمن، وتونس، عاشوا تجربة الربيع العربي، وكيف أثّرت هذه التجربة على المنجز الأدبي الخاص بهم.
رهان الكاتب
يقول الروائي التونسي سفيان رجب إن المعوقات السياسية والاجتماعية والاقتصادية تؤثر سلبيًا على المواطن في حياته اليومية، لكن المبدع الذي يملك مشروعًا، لا يعترف بشيء اسمه مُعوّقات، بل بالعكس؛ تتحوّل تلك المُعوّقات إلى مادّة للكتابة.
ويضيف “رجب”: شخصيًا بعد الثورة؛ احتجت إلى وقت لأسترجع فيه توازني النفسي، ثمّ انطلقت في العمل على مشاريع أدبية، فاقت العشرة كتب، وقد صدرت لي بعد الثورة تسعة كتب، كتبت ثلاثة منها قبل الثورة، والبقية كُتبت بعد الثورة، ولا تزال خمسة كتب بين شعر وسرد مخطوطة تنتظر دورها في النشر، اهتممت في أغلب كتاباتي، بالتحوّلات التي طرأت على الإنسان التونسي بعد الثورة، وخاصة الطبقة المهمّشة والأقليات.
وعلى جانب آخر، يتابع سفيان رجب: أنا أرى أنّ الإنسان في العالم، يشهد تغيرات جذرية في سلوكه، وهذا ما يؤثر على حياته الشخصية، وعلى علاقته بالآخر، في عصر تكتسحه وسائل التواصل الاجتماعي، كلّ هذا يجب أن يوثّق في الأدب، لكن ليس بأسلوب تاريخي تقريري، فهذا دور المؤرّخ، لكن بأسلوب جمالي يخلق حساسيته الفريدة والأصيلة، والتي تحاول فهم نفسية الإنسان الجديد، أمام الكاتب الآن رهانات قاسية، لانتشال الإنسان من طوفان الفوضى واللا معنى، بخلق معان جديدة تستحقّ أن يعيش لأجلها الإنسان.
وأشار الشاعر اليمني، أحمد السلامي، إلى أن هناك بعض المبدعين وصلوا إلى مرحلة حرجة في ظل الحروب والأزمات، لكن الربط بين العملية الإبداعية وبين الظروف العامة التي يعيشها المجتمع بأكمله مسألة يتخذها البعض حجة أو شماعة للتوقف عن الكتابة.
ويلفت “السلامي” إلى أنه لا يمكن إنكار تأثير الأحداث من حولنا، لكن أحد أخطاء ماضينا القريب يتمثّل في هذا الفصل الحادّ بين الكاتب والمجتمع، أو التمييز غير الإيجابي الذي يصور الكاتب وكأنه مخلوق نوراني تتركز مهمته في انتظار الإلهام.
وتابع: لا ننسى، أيضًا، أن الأنظمة الساقطة حاولت أن تحصر وظيفة الكاتب كما حددت مفهوم الثقافة والفعل الثقافي في النشاط المعزول عن الفضاءات العامة، حتى المطبوعات الثقافية كانت واقعة تحت سطوة تبويب مخادع، كان القصد منه محاصرة الكلمة في محاور هلامية، حتى لا ينفتح سؤال النقد والإبداع ويطال جوانب أخرى مسكوت عنها وممنوعة من التناول؛ لذلك أقول إن ما نراها معوّقات تزامنت مع انفجار الربيع العربي ليست سوى الأعراض الجانبية التي صاحبت فتح الجرح تمهيدًا لمعالجته، وأي مسيرة إبداعية تستمد صيرورتها من الركود والسكونية لا يُعوّل عليها.
ويرى أحمد السلامي أن الربيع العربي لم يكن عائقًا بل كان علاجًا لمرض مزمن، ورغم الضريبة التي دفعت في بلدان الربيع؛ إلا أنه وضعنا أمام فرصة مواجهة الاستقرار الكاذب والمزور، وبالتالي لا يجد في أحداث الربيع وتداعياته سوى فسحة للعودة إلى بناء الذات الجمعية والبحث عن ممكنات الخلاص من الأخطاء والمغالطات والأوهام التي عمّقتها الديكتاتورية.
وأشار إلى أن المسيرة الإبداعية هي اشتغال يتطلب الدأب وامتلاك الرؤية ومعرفة الطريق الذي يقرر الكاتب أو الشاعر أن يسلكه، حينها مهما كانت الظروف من حوله لن يتمكن أحد من تعطيل مشروعه.
ولا يميل “السلامي”، إلى تحميل الظروف المحيطة بالمبدع مسؤولية عرقلة مشروعه الأدبي، قد يتضرر فضاء التلقي والنشر والتسويق وقد تؤجل الظروف الاحتفال بالكاتب وتحرمه من المكافأة والتكريم ومن حصاد ثمار النجومية في الظروف الصعبة، وقد يواجه الكاتب أيضًا الخطر على حياته، لكنه لا يواجه ذلك منفرداً، لأنه في النهاية فرد من المجتمع، ومن غير اللائق الحديث عن معاناة كاتب لا يجد المقهى الآمن والمكتبة المفتوحة، بينما الناس يبحثون عن مخبز مفتوح وعن ملجأ يسع أطفالهم.
وختامًا، يقول أحمد السلامي، إن العملية الإبداعية ولحظة الكتابة شأن يخص المبدع وعليه أن يتمسك بحرفته في كل الظروف لأنها اشتغاله وما يجيد القيام به.
رؤيا جديدة
تقول القاصّة التونسية هدى الهرمي إن الكتابة الابداعية تعكس عادة المواقف والآراء التي تٌعبّر عن الواقع، أو بالأحرى هي عملية تفاعلية معه، وبما أن تونس شهدت موجة الربيع العربي وأوقدت الشرارة الأولى للثورة في وجدان العالم العربي الممزق، فقد عشت مرحلة مهمة وحسّاسة، وانصبّ اهتمامي في ربط نصوصي الأدبية بهذا السياق؛ مما كان له الأثر الواضح في مسيرتي الإبداعية، عبر بواكير القصص التي كتبتها، وتناولت موضوعات تشغل المجتمع وترفع الستارة عن واجهات متعددة شبيهة بمسرح الحياة، كفعل إبداعي يُترجم انعكاساتها على المسارات والمصائر.
وترى “الهرمي”، أن هناك صورًا ومواقف تتداعى على خيال الكاتب عبر بيئته، وتترك آثارها في وعيه وحسّه الأدبي، لتغدو نصوصه مطعّمة بمشاهد وافدة من القلق الإنساني المتراكم، إضافة إلى الأخيلة المُتشابكة مع محطاتٍ عديدة في الحياة، ومتفاوتة في امتدادها الفكري والفلسفي.
واعتبرت هدى الهرمي أن الواقع المشحون باليأس، والتخبّط السياسي والتراجع الاقتصادي، والظواهر المٌحمّلة بالأوجاع، يعتبر اللبنة الأولى في نضوجها الأدبي والتوجّه الإبداعي نحو جنس القصة القصيرة؛ لما يزخر به من ثراء ينبثق من استغلال كل الجزئيات ومزاوجتها بالمعاني المُعانقة للهوية والمُلتحمة بالإنسانية. وبشكل آجلّ، تتحول إلى مرايا تعكس سعة رؤيتنا للحياة والوجود ورسائل لا تخلو من أصواتنا المتمردة.
وتحدثت “الهرمي” عن ثورة أخرى عبر الكلمات وهي ثورة على اللحظة الزمنية الراهنة المتشظيّة من أزمة المعنى، واصطدام محاولات التغيير بسلطة الأمر الواقع، لتخلق مشروعيتها في ذهن الملتقي، وهي تقتات من الأسئلة المصيرية والجوهرية، كتأشيرة مرور إلى عوالم أخرى فائضة بالرمزية والدلالات، إضافة إلى الغرائبية والعجائبية والعلاقة الجدلية بين الواقع والخيال.
وتابعت: رغم النظرة المتشائمة ازاء الوضع الراهن، وتعدّد المعوّقات بكل تجلياتها؛ فإن أهمية الأدب، حسب رأيي؛ تتجلّى في هذه الحقبة المفصلية، كردّ فعل وإجابة عن التساؤلات المريرة التي خلفتها الثورة، ومن ثم كمدخل للتنبؤات المُكلّلة بلوحات سردية ذات منظور آخر للعالم، ضمن قالب أدبي وفني.
وتعتقد “الهرمي” أن القصة القصيرة هي رؤية للعالم وقد تكون عنصرًا أساسيًا في تحديد نمط الكتابة الذي يتم تبنيه لاحقًا، فتشي ببعض مكنوناته.
واعترفت هدى الهرمي بأنها ككاتبة منساقة وراء وهم جمالي ومنحازة الى الهمّ الإنساني، كشكل محوري للتعبير، وبمعزل عن المتعة، فإن القصة هي بنت الواقع بهمومه وهواجسه، بماضيه وحاضره؛ لذلك فهي معنيّة كقاصّة، بإعادة إنتاج الواقع وطرح قضايا وأسئلة تمزج بين السياسي والاجتماعي والفكري، من خلال تمظهرات مختلفة؛ الأمر الذي أثّر في مسيرتها الأدبية، وجعلها تنساق إلى السرد كمصدر حيوي، له المقدرة على صنع الخيال ومعالجة مشاهد درامية مُقتنصة من الواقع.
وبحسب هدى الهرمي؛ لا يختلف اثنان، في أن أي كاتب، تتردّد أفكاره وأصداؤه في داخل النص السردي أو الشعري، وهذا ما يُميّز النص الأدبي الحديث القريب من العرض، وفق رؤى جديدة ومتنوعة، تؤمن بالانفتاح في طرح جوهر التغيير ورصد معمق لمعاناة الشعوب.
وقالت: أختم بمقولة علقت بذهني منذ الصغر للكاتب والمفكر التونسي محمود المسعدي “الأدب مأساة أو لا يكون”.
يؤمن الروائي الليبي، إبراهيم عثمونة، بضرورة هذه المعوّقات حتى يحفر الحدث في مكانه ويسجّل التاريخ أثره الذي مرّ من هنا على قدميه.
ويضيف: أحيانًا؛ أقول لو لم تكن هناك معوقات ولو لم يحدث الذي حدث في الإقليم وفي ليبيا على وجه الخصوص؛ فلربما ما زل إبراهيم هناك على مسافة عشر سنوات بالوراء، أتصور الفعل العنيف ورد الفعل العنيف الذي حدث حولنا، حدث فينا بالقوة نفسها وهو ينقلنا معه وإلى جانبه بشكل مواز، نحن نتطور في الحالتين، بغض النظر عن موقفنا، إن كان مع أو ضد، فالمهم هو اقترابنا مما يحدث وتفاعلنا معه إيجابيًا أو سلبيًا؛ لينفجّر في صدورنا ما ينفجر في الشوارع الخلفية والمحيطة بنا.
ويتابع: نعم لقد أثّر فيّ الفعل ورد الفعل المضاد وكثف الزمن في داخلي بما يُعادل الضعف أو أكثر من الضعف، حتى أنني أشعر أحياناً أن العشر سنوات التي قفزتها معه “أعايرها وأعالجها بطريقتي”، وأفاجأ حين أكتشف أنها تعادل أكثر من مسافة عشرين سنة إلى الأمام، ما من شك في أن طاقة موعودة كانت تنتظر في داخلنا، حتى أنها لتبدو لي اليوم كما لو أنها ظلت تتحسس وتقدر في الظلمة المسافة المتبقية عن 2011 ، ولو تخطّت رزنامة التقويم هذا العام وقفزت إلى 2012؛ فلربما فقدت الرزنامة الكثير من قيمتها ونفثنا هواءها كما ننفث السيجارة أو تبقى في داخلنا وتسبّب لنا مشكلات وأورام.
ويرى إبراهيم عثمونة أن المُعوّقات التي تمرّ بنا أعطت الحدث قوة وارتدادات حتى وإن أفقدته في بعض الأوقات بعده الوطني وأخرجته عن المعقول، ولكن هذه طبيعة المنعطفات التاريخية حين يفقد الكل السيطرة عليها، ويغدون كما لو أنهم مجموعة من المهاجرين على قطعة خشب في عرض البحر.