آخر تجليات آكلي لحم البشر
سالم العوكلي
في رواية “حفلة التيس” شبه التوثيقية، للبيروفي ماريو باراغاس يوسا، يستدعي واقعة تقطيع رجال مخابرات طاغية الدومينيكان، تروخيو، لأحد معارضيه، غير أن التشفّي لم يقف عند هذا الحد، بل اعتُقِل والد المعارض، وجُوّع لعدّة أيام، ثم أحضروا له وجبة دسمة من اللحم، وبعد أن تناولها أخبروه أن ما تناوله لحم ابنه المعارض، في إشارة إلى أن هذا النوع من الطغيان ينتمي في حقيقته لزمن أكلة لحوم البشر.
ما يجعل منظومات الحكم التقليدي تصفّي معارضيها؛ هو إصابتها بوسواس قهري ناجم عن شعور دفين بأنّها تحتل مجالا سياسيا دون وجه حق، أو ما يمكن اختصاره بإحساسها العميق بفقدان الشرعية، مهما حاولت أن تستجدي شرعياتها المزيفة من التاريخ، أو السلالة المقدسة، أو القوة، أو المشروعية، أو قدرتها على حماية القطيع الذي تملكه.
لا أعرف ما إذا كانت السلطة السياسية، التي تفتقد الشرعية، تستحق أن تسمى “نظاما” وفق الاصطلاحات التي أفرزها القاموس السياسي الحديث، لأن النظام حسب ما أرى هو سلطة ينظمها عقد وقوانين وتشريعات تحدّد علاقتها بالمحكومين، وغير ذلك لا ترقى لمستوى أن تكون “نظاما”، إنّما هي مجرد منظومة تحكُّمٍ ناتجة عن نفوذ ما، استطاعت في لحظة من اللحظات أن تسيطر به على المجتمع، ومن ثم تضع منظومتها التشريعية التي تؤبّد هذه السلطة؛ كأنها قدر، أو تعتنق مذهبا يجعل حكمها مؤيدا من السماء. إنها حالة اغتصاب للسلطة، فرضت نفسها عن طريق السطوة، وينتج عن حالة الاغتصاب هذه نوعان من الامتثال: بيولوجي، وسيكولوجي.
من جانب بيولوجي، يكون التسليم التام من قبل الرعية (التي لحم أكتافها مِنّة من الحكومة) فتُدار بطريقة تصبح فيها ممتنّة لهبات هذه السلطة من توفير أمن وغذاء (وهو منحى تستخدمه حتى بعض الميليشيات أو العصابات التي تسيطر على أحياء أو مدن أو قرى). أو من خلال العمل على ترسيخ هذه السلطة كأمر واقع من خلال التعود عليها، أو الحنين إليها إذا غابت، من جانب سيكولوجي.
ولأن لحم أكتاف الرعية هبة من الحكام فهم لا يتورّعون عن تقطيعه، أو وضعه في ثلاجات لسنوات طويلة، إذا ما خالف صاحب هذا اللحم رأي السلطة أو انتقدها، وهذه العلاقة بلحم الرعية تعيدنا إلى زمن آكلي لحم البشر، دون الحاجة إلى استعارة أو مجاز أو تورية.
كانت شرعية الحكام العتيدين تتأتّى من مصادر غيبيّة بتفويض النخبة القريبة للحاكم، التي تتحوّل تلقائيا إلى حاشيته، عبر ما يسمّى المبايعة التي عادة ما تديرها المؤسسة الدينية في حلفها التقليدي مع السلطة السياسية الحاكمة، أو عبر الغلبة بالقوة التي غالبا ما تمر عبر بحر من الدماء، وأيضا تبارك السلطة الدينية هذه الغلبة تحت شعار أن الحاكم مرسل من الإله، أو أن الحاكم ولي أمر تجب طاعته، بصرف النظر عن الطريقة التي وصل بها إلى السلطة، أو عمّا يقترفه من جرائم تجاه رعيته، باعتبارها تقع تحت بند العقاب الإلهي للرعية الضالّة.
مع الترقّي الإنساني، وفتوحات العقل البشري في العلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية، انحسرت هذه الشعوذة السياسية التي استسلم لها لفترة طويلة عقل شعبي موقن بذاك المنبع الخرافي للسلطة، الذي يتطلب منه نوعا من العبادة والورع، وبدأت المجتمعات عبر نخبها تسعى إلى نظم حكم جديدة عبر إعطاء الشرعية للسلطة من قبل الناس (الناخبين)، الذين يشكّلون الطرف الأقوى في المعادلة. النظام الشرعي هو النظام السياسي الذي يصل إلى السلطة عبر رغبة الناس التي يعبر عنها بالاستفتاء، أو بالانتخابات الحرة النزيهة، والنظام الشرعي وفق هذه الإرادة الشعبية؛ يجب أن يكون حكمه مؤقتا ومحددا بسقف زمني، وعرضةً للنقد والمساءلة وفق دعم دستوري. وتحديد سقف زمني للحاكم الشرعي ليس ترفا سياسيا، لكنه ضرورة تعود لأسباب بيولوجية طبية، ولأسباب عملية تتعلق بإتاحة الفرصة لطاقات المجتمع الكامنة، ولأسباب سيكولوجية تفيدنا بأن الإنسان بقدر ما تطول به فترة السلطة بقدر ما يكون عرضة لتشوهات أخلاقية.
الغريب أن كل منظومات التسلط المغتصب لحق الناس في الاختيار، التي انتهت نهاية مأساوية، سواء كانت إمبراطورية أو ملكية أو إقطاعية أو جمهورية، انتهت وتحت أقدامها مقابر جماعية من ضحاياها، من أصحاب الرأي المخالف أو المعارضين الذين صفّتهم من أجل ألَّا تنتهي، فكل حكم غير شرعي لا يتوقّف عن سحق معارضيه، رغم إدراكهِ بأنّه ذاهب في كل الأحوال إلى نهاياته التراجيدية.
فتك هتلر بكل من يعارضه، أو يهمس بنقده في عشاء عائلي، وانتهى منتحرا هو وزوجته وكلبته المدللة، تاركا خلفه مقابر جماعية تحوي عظام كل من عارضوه، أو حتى أسدوا له النصح.
علَّق الشعب؛ الذي طالما تحدّث باسمه، موسيليني من أقدامه، بعد عقود من تصفية مخالفيه، والفتك بكل رأي ناقد.
اختبأ صدام الذي صفّى كل معارضيه، حتى من أقاربه وأصدقائه، في حفرةٍ بعد أن أسقطَ شعبُه تماثيلَه الكلسية المنتصبة في ميادين العراق، وسقط في حفرة إلى ثقب عميق في التاريخ، كم الْتَهمَ طغاة فعلوا كل شيء من أجل أن يبقوا في الحكم فوق هرم من الجماجم.
في ماسورة لتصريف المياه بمسقط رأسه، انتهى القذافي الذي كم لاحق معارضيه ومنتقديه في كل أصقاع العالم، وأعدم وصفى وذبح وسجن وخطف كل من طالته يد آلته البشرية المتوحشة “اللجان الثورية”.
والسؤال لماذا تستمر الأنظمة في تقنية العنف نفسها؟ ولماذا الأنظمة التي تعدُّ نفسها على رأس قوة مهمة في العالم، يهزّها كاتب لا يملك إلا أن يهمس برأيه في عامود صحفي، بل ورأي مسالم يحمل في طياته النصيحة التي تسعى لتصالح هذه السلطة مع رعاياها، إن كانت تطمح في الاستمرار.
الإحساس العميق بفقدان الشرعية هو ما يؤدي إلى هذا السعار، وهو ما يجعل (نظاما) يملك المليارات، والنفوذ، وترسانة أسلحة فتاكة، وحاشية مسعورة مستعدة لتنفيذ كل شي، تهزّه مقالة أو فكرة مكتوبة أو حتى مجاز في قصيدة.
حرية التعبير لا يمكن إلا أن تكون نتاج عقد دستوري بين السلطة والمواطنين، حين يدرك الجمهور أنّه الطرف الأساسي في هذا العقد، وأنه مصدر الشرعية الوحيد لأيّ سلطة، وأنه دافع الضرائب، وأنه المكون الرئيسي لمنظمات المجتمع المدني، وأنه الكاتب الضمني للدستور. لذلك تحوّل الحاكم إلى موظف مؤقت ومحدود الصلاحيات، والحكومة إلى إدارة، والناخب إلى القوة المركزية التي يتملقها السعاة إلى الحكم، وهي القوة التي ستراقبه عبر المؤسسات الرقابية المختلفة، ومن خلال حرية التعبير المتمثلة في السلطة الرابعة، وعبر قضاء مستقل لا سلطة للسلطة السياسية عليه.
لن يتوقّف هذا النزيف، ولا نهم آكلي لحم البشر من الطغاة، حتى نترقى إلى طور حضاري جديد، حيث لا يكون الإنسان إنسانا إلا بقدر ما يكون مواطناً.