ويهري وشواطئ ليبيا المحترقة
نشرت جريدة نيويورك تايمز قراءة للكاتب “ديكستر فيلكينز” عن كتاب “الشواطئ المحترقة The Burning Shores” للكاتب “فريدريك ويهري” عن ليبيا التي تابع حالتها السياسية منذ ما قبل الثورة وإلى الاضطرابات الحالية فإلى المقال:
عام 2011، انتفاضة كبيرة لأناس عاديين في العالم العربي، ظهرت مبدئياً كلحظة ابتهاج – الربيع العربي كما سمي في بعد – لكن سريعاً، تقريباً في كل مكان، انهار في فوضى.
من المغرب إلى الخليج العربي، اتضح أن “الرجال المريعين” الذين حكموا العالم العربي، دمروا تقريباً كل شيء من الممكن أن يجعل مجتمعاتهم متماسكة بعد رحيلهم. عندما فقد الدكتاتوريون قبضتهم، بلدان المنطقة انهارت، وسقطت في الوحشية والمعاناة التي مازالت تحترق إلى الآن.
المثال الرئيسي لهذه الظاهرة هي سوريا، مشهد قتل ويأس منقطع النظير في زماننا. لكن ليست المكان الوحيد، فربما الحجم الكبير لكارثة سوريا، عرقل النظر لمدى الحالة اليائسة التي كانت سائدة. واحدة من هذه الحالات هي ليبيا، بلد شاسع، بعدد سكان صغير، تغطي معظمها الصحراء التي تتشح بها سواحل المتوسط في شمال أفريقيا.
بعد سبع سنوات من مغادرة ديكتاتور ليبيا للمشهد، البلاد تئن البلاد تحت وطأة الحرب الأهلية، العواقب الوخيمة للعنف تصل إلى ما بعد سواحلها، ومع ذلك قليل جداً من تتبع كيف حدث ذلك بالتفصيل.
في كتابه “الشواطئ المحترقة The Burning Shores” تتبع الأكاديمي الأميركي “فريدريك ويهري” مشاكل ليبيا من بداية الثورة، وحتى الاضطرابات الحالية، واضعا إصبعه على اللحظات المفصلية في الطريق. النتيجة متفاوتة، وفي بعض الأحيان يصعب تتبعها، رغم ذلك، نسخة ويهري يجب أن تُقرأ وتثمن كقراءة مبدئية حول تفكك البلاد. خلال تتبع صراع ليبيا، ويهري (باحث متقدم في معهد كارنيغي للسلام العالمي). غامر مرات عديدة بالذهاب إلى مكان منسي في الصحافة الغربية، واعتبر أحياناً خطراً جداً.
“الشواطئ المحترقة The Burning Shores” ليس قصة سعيدة، إنما يبين أن انحدار البلاد – في العراق أو سوريا، مثلاً – ربما يظهر فرصاً ضائعة، قد تبدو قليلة بشكل واضح في هذه الحالة. دولة ليبيا ومجتمعها تم تمزيقها منذ زمن طويل.
“الشواطئ المحترقة The Burning Shores” يبدأ مع الديكتاتور معمر القذافي، أحد أشهر الحكام غريبي الأطوار الذين حكموا البلاد. القذافي ابن البدو، ولد في خيمة، وعاش فيها، أراد أن يرتدي زيا عسكريا درامياً، أو أثواباً تقليدية، وأعطى كل الإشارات لإصابته بالعته. لكنه لم يكن غبياً. القذافي حاز السلطة في عام 1969 عندما كان عقيداً شاباً، عندها أمسك بقبضة خانقة، ولعب بقبائل ليبيا ضد بعضها، وأفسد المؤسسات المستقلة التي كانت موجودة.
متأثراً بماو، جمع القذافي مقولاته (غير المثيرة للاهتمام) في مجلد باسم “الكتاب الأخضر”. ومول الإرهاب. عملاء القذافي خططوا ونفذوا تفجير طائرة بان آم الرحلة 103، التي انفجرت فوق لوكربي في اسكتلندا عام 1988، وقتلت 270 شخصاً. في عام 1986، بعد أن شن القذافي هجوماً على ديسكو في برلين، الطائرات الأميركية قصفت خيمته، التي كان يعتقد أنه موجود فيها، وقتلت من بين آخرين، طفلة، يزعم أنها ابنته.
القذافي خلال حكم استمر 42 سنة، استطاع عن طريق عائدات النفط والشركات الغربية، التي رضخت له عندما كانت البلاد لا تقع تحت تخضع لعقوبات الأمم المتحدة، بتعداد سكاني لا يتعدى 6 ملايين، تملك ليبيا المرتبة التاسعة من حيث احتياطيات النفط. الانتفاضة التي أتت أخيراً في 2011، بداية من مدينة بنغازي، عندما نزل الليبيون العاديون إلى الشوارع للاحتجاج على المحامي الحقوقي، فتحي تربل. انتشر الغضب، “العقيد”، كما أحب أن يدعو نفسه، تعهد بأن يسحق المتظاهرين بقوة مفرطة. في تلك اللحظة المفصلية، الولايات المتحدة، شاركت في تدخل بقيادة فرنسا والمملكة المتحدة، متعهدين بأن يوقفوا ما ظهر أنه كارثة إنسانية.
الغرب، باستخدام القوة الجوية، استبق مجزرة، وبشكل حاسم، قرر أن يستمر إلى أن أزاح القذافي من السلطة.
مع رحيل القذافي، وقف الغرب بعيداً بينما سيطرت الفوضى على البلاد، في البداية، يلاحظ ويهري، أن المحللين الغربيين لم يعتقدوا أن ليبيا – التي تعتبر بالكامل مسلمة سنية – من الممكن أن تتصدع مثل مجتمعات سوريا والعراق متعددة الأعراق. لكن البلاد تصدعت رغم ذلك: الشرق والغرب، الإسلاميون والمدنيون، الإسلاميون ضد بعضهم.
أضف إلى ذلك التدخل الخارجي الذي أدى إلى انهيارالبلاد. وعلى الرغم من أنه لم تكن هناك أي رغبة في العواصم الغربية للتدخل على الأرض في ليبيا، يقول ويهري إن الليبيين لم لم يريدوا ذلك بأي حال: بأكثر من طريقة، ليبيا تظهر كيف أن التدخل البشري يمكن أن ينحرف عن مساره لأي درجة.
لو كان هناك خطأ جوهري غذى الفوضى، كان قرار الحكومة الانتقالية، بعد إسقاط القذافي، للدفع للمجموعات المسلحة المختلفة، التي ساعدت في القتال أثناء الثورة. بهذه الطريقة، اختفى المنطق، المسلحون كان يمكن التحكم بهم – لكن النتيجة كان أن الميليشيات تضاعفت وبدأت تتقاتل مع بعضها، ولا أحد استطاع التحكم بهم على الإطلاق.
” مثل ساحر شاب في فيلم The Sorcerer’s Apprentice” يكتب ويهري: “الحكومة الليبية صارت تحت تحكم شبح استحضرته بنفسها”.
المراسلة من ليبيا عمل صعب، جال “ويهري” أرجاء البلاد، وتنقل مراراً وتكراراً عبر الساحل، وجلس مع أمراء الحرب والإسلاميين، رغم النوايا المشكوك فيها. معظم لقاءاته لا يظهر أنها دامت لمدة طويلة لتشكيل علاقات أعمق. ربما أتى ذلك بسبب الوضع الفوضوي. لكن الشخصيات الوحيدة التي تركت انطباعاً يدوم في الكتاب هي المحامية الحقوقية الليبرالية سلوى بوقعيقيص، التي كان لها آمال عالية في البلاد لكنها قتلت من مسلحين إسلاميين بعد الثورة بفترة قصيرة، والسفير الأميركي كريس ستيفنز، الذي مات في هجوم على السفارة الأميركية في بنغازي عام 2012.
الأيام الأخيرة لستيفنز، الإنسان والدبلوماسي الشجاع، يتذكرها الكاتب بشكل واضح. ستيفنز كان مصمماً أن يستخدم تأثيره كممثل للولايات المتحدة ليحافظ على تماسك ليبيا، وخاض في الفوضى. توفي ستيفنز بسبب استنشاقه الدخان عندما هاجمت ميليشيا الإسلامية “أنصار الشريعة” السفارة الأميركية، وأشعلت فيها النيران. خدم ستيفنز كرمز لجهود الغرب في ليبيا لتنقذ نفسها، بعد موته، تكررت محاولات الولايات المتحدة والأمم المتحدة لتشكيل وفاق سياسي، لكنه سرعان ما انهار. هذا السلوك وصفه المسؤول الأميركي الرفيع “ديريك تشوليت” بأنه كان – حسب اقتباس من كتاب ويهري – يرمي إلى “لتذهب إلى الجحيم”.
انهيار الدولة الليبية ترك فراغا في شواطئ المتوسط، على بعد أقل من 300 ميلاً من إيطاليا. مع ضعف الحكومة المركزية، ليبيا أصبحت ممراً بين أوروبا و البلدان الأفريقية المفقرة. يدعو “ويهري” ليبيا بأنها “شاطئ أوروبا الأفريقي”، وهي فعلاً كذلك. العصابات الإجرامية التي تتحكم في ساحل البلاد تقود الجحافل اليائسة من المهاجرين الذين يتدفقون عليها، وتتقاضى أسعارا باهظة منهم، لترسلهم عبر قوارب متهالكة ليبدأ التسلل. (آخرون اغتصبوا وقتلوا خلال رحلتهم إلى ليبيا، أو احتجزوا في سجون مريعة، بعد وصولهم). عام 2017، أكثر من 150 ألف مهاجر، وصلوا عبر المتوسط إلى أوروبا، العديد منهم غادروا من ليبيا، وغرق أكثر من 2000 خلال رحلتهم. هو قياس لمدى الحياة اليائسة التي من الممكن أن تدفع العديدين في أفريقيا والشرق الأوسط للمغامرة بفرصة كهذه.
رد الفعل الشعبوي العنيف الذي اجتاح أوروبا من الممكن أن يرى بطرق عديدة كرد فعل تجاه انهيار الدولة الليبية، والحرب في سوريا. التي أطلقت حشوداً هائلة من البشر. لإيقاف المد البشري الهائل، أوروبا شرعت في إجراءات متطرفة: سيرت دوريات قبالة السواحل الليبية، مولت خفر السواحلي الليبي والحكومة التي تبقى بصعوبة، وتدفع كذلك لميليشيات، البعض منهم هم “المهربون الرئيسيون”، لإبقاء المهاجرين بعيداً.
في الماضي، متاعب بلد مثل ليبيا – بعيدة، وبعواقب قليلة – كان من الممكن أن يتم تجاهلها من بقية العالم، وتمر الأمور بسلام. لكن الآن لم يعد الوضع كذلك. وعلى حد ما نستطيع في المستقبل، فوضى ليبيا، ستظهر أمام أبواب الغرب مباشرة.