وهج التنوير ينطفئ.. ضربة جديدة موجعة لحرية التعبير في ليبيا
أعلنت حركة تنوير إيقاف نشاطاتها وتوقفها بشكل دائم ونهائي وحذف موقعها على الشبكة المعلوماتية، وإنهاء جميع عضوياتها وفك الحركة تماماً، مناشدةً الأجهزة الأمنية بالتوقف عن ملاحقة أعضائها وإطلاق سراح المحتجزين.
موقف اتخذته الحركة المدنية المعنية بدعم ثقافة الاختلاف وترسيخ قيم التعايش عبر حوارات مجتمعية، تبعته حملة متواصلة قادتها الأجهزة الأمنية وعناصر أصولية استهدفت اعتقال عناصرها والتضييق على نشاطاتها واتهامها بالعمالة للخارج وتهديد قيم المجتمع الليبي، حسب زعمهم.
اتهامات باتت شماعة رائجة وقالباً إقصائياً جاهزاً يتمترس خلف سواتر مجتمعية ودينية متشددة ترفض الاختلاف وتندد بالتنوع وحرية التعبير، والتي اعتقد الجميع لوهلة أنها تمثل المكسب الأغلى لثورة 17 من فبراير بعد ما اختبر الليبيون لعقود أنظمة الاستبداد وتشريعات الإقصاء والتخوين.
ترحل تنوير عن المشهد الثقافي الليبي مكلومة ومتهمة، بعدما فشلت في أن تجد لأفكارها مساحة في مجتمع يُعاند التغيير ويرفض الانفكاك من مشهدية الحرام والممنوع، حتى صارت كل نطاقات التفكير والاختلاف “تابوهات” مسيجة يمنع اختراقها وتقود روادها إلى العدم وسط ضجيج المؤيدين الذين يرون في ملاحقة أصحاب الأفكار والأقلام الحرة، أمثولة للتدليل على سوء العاقبة، وانتصاراً للظلم الذين يرونه حقاً ساطعاً.
لم تكن سطوة الأصوليين وزعامة المتشددين في المجتمع الليبي وتغلغلهم في مفاصل وأجهزة الدولة التشريعية والتنفيذية والأمنية والإعلامية وحتى القضائية حدثاً استثنائيا في سياقات تطور المجتمعات، فليبيا المتوسطية ليست استثناءً مثقلاً بالخيبة وظاهرة فريدة في تشكل الأمم المتحضرة ولكنها بكل بساطة تأخرت، فكان لزاماً على أبنائها أن يشقوا الطريق ذاته الذي سلكته الأمم التي نجحت في تحويل حرية الكلمة والتعبير وكرامة الإنسان لأيقونات تحرسها ثقافة مجتمعية عريضة وتضمنها دساتير حداثية وتُيسر إنفاذها أجهزة أمنية منضبطة ترى في نفسها حامية للقانون والدستور وليست وصية على الأفكار والآراء.
لم تكن المحنة التي مرت بها تنوير فريدة، فقد سبقها تجمع تاناروت للإبداع الليبي، كما سيق العديد من أصحاب الأفكار إلى غياهب السجون وعرضوا على صفحات أمنية عسكرية وهم يدلون باعترافات تعيد إلى الذاكرة محاكمات ابن رشد ومحنة جاليليو أمام أباطرة القرون الوسطى، في تراجيديا سوداء ضحيتها ليبيون ارتكبوا خطيئة التفكير حيث لا تناقش أفكارهم ولا تستوعب نشاطاتهم الأدبية، فهم قد كفروا بتقاليد المجتمع ووجب إقصائهم، وتكفيرهم في نظر جلاديهم إرث محمود وسنة متواترة وتهمة ذائعة الصيت لا تحتاج الكثير من العناء.
سياج حديدي يُعمر بنيانه سدنة الموت الذين استحوذوا على دوائر صنع القرار في البلاد التي تسير بيأس وتخبط نحو بناء أركانها بعد أن تداعى كل شيء، فاستعاض هؤلاء عن إطلاق الرصاص الذي دوى في بنغازي وطرابلس ودرنة وغيب أصواتاً حرة إلى موت آخر تسوقه الأجهزة الأمنية، وما يزيد وضع أصحاب الكلمة الحرة في ليبيا مأساوية هو أن قمعهم تحول لوسيلة رائجة لدغدغة المشاعر ورفع رصيد الشعبية الزائفة التي يظهر فيها الجلادون بمثابة حماة للمجتمع من التغريب والضياع وفقدان الهوية والدين، حيث يُثني عليهم الجميع بينما يصمت العقلاء حتى حين في سردية ليبية خالصة تحاكي سرديات مشابهة في بقاع مظلمة أخرى من العالم يُجرم فيها الفكر ويُحتفى فيها بالأصولية والتشدد.