كتَـــــاب الموقع

وديعة ميليت

أبوالقاسم قزيط

بيتر ميليت سفير بريطانيا السابق في ليبيا في وقته كانت السفارة البريطانية في قمة نشاطها، أتذكر أنني كنت أراه أكثر من بعض أفراد أسرتي أواخر عام 2017 وأوائل عام 2018، بحُكم تواجده في كل مكان تقريباً في طرابلس خاصة فندق المهاري..

سيختلف الليبيون حول شخصية مليت كما يختلفون حول كل شيء، بعضهم سيراه لورانس العرب والبعض الآخر أدريان بلث، والبعض الآخر سيراه نسخة عصرية من سفراء بريطانيا في العصر الذي كانت فيه إمبراطورية لا تغرب عنها الشمس…

يعتقد البعض أن المهندس الحقيقي لاتفاق الصخيرات هو بيتر ميليت وليس المبعوث الدولي برناردينو ليون، بحكم أن تأثير ميليت على الأطراف المهمة خاصة الولايات المتحدة دون شك هو أكبر من تأثير مبعوث دولي منحدر من السلك الدبلوماسي الإسباني البعيد عن التقاليد الأنجلو ساكسونية، التي تهيمن على المشهد الغربي والعالمي..

وديعة ميليت هي وصية تركها ميليت بعد مغادرته منصبه، (وليست تعهداً كما هو حال وديعة رابين) من أجل حل المشكل الليبي …

هي وديعة لأنه تركها لنا كما ترك رابين وديعته…

أول مرة سمعت هذه المقاربة (التي صارت وديعة لاحقاً) من ميليت كانت في ديسمبر عام 2015، كنا حينها نستعد للذهاب إلى ايطاليا للقاء وزراء خارجية الدولة المهتمة بليبيا في مطار تونس قرطاج، كنا السيد امحمد شعيب والسيد فتحي باشاغا وأنا… وكنا مفعمين بالأمل أن يكون اتفاق الصخيرات هو خاتمة الصراع والفرقة والانقسام في ليبيا، اقترب ميليت بملامحه الجدية ويعلو وجهه نوع من الإحباط والكدر، وصارحنا أن بعض الدول العربية تلقي بثقلها لتعطيل اتفاق الصخيرات، حينها قلنا له لماذا لا يكون لبريطانيا دور في دعم الاتفاق أمام هذه الدول الصغيرة، لكن ميليت قال إن بريطانيا لا تقوى على هذه الدول لأن لها تأثيراً كبيراً في الاقتصاد البريطاني والإعلام البريطاني وهذه الدول صغيرة الحجم كبيرة في التأثير…

لكنه عاد وأشار أن الحل موجود وأومأ إلى جوناثان واينر مبعوث الولايات المتحدة إلى ليبيا، أحدنا شاكس ميليت قائلاً: ربما تكون للولايات المتحدة الإجراءات نفسها، وهوه النفوذ المالي لهذه الدول، لكنه قال بهدوئه المعتاد لا، الولايات المتحدة لا يستطيع أحد أن يضغط عليها، إذا اقتنعت الدوائر الأمريكية…. لديها من القوة أن تفرض الحلول على شركائها الصغار…

إلى هنا والأمر لا يتعدى مقاربة للحالة الليبية، تختلف بالضرورة عن مقاربات أخرى محلية ودولية…

ما كان لافتاً أن ميليت عندما بدأ بحزم حقائبه صيف عام 2018 كرر النصيحة نفسها (الوديعة)، لنا نحن مجموعة من النواب، قال لن تحل الأزمة الليبية إذا لم يكن الملف الليبي على المكتب البيضاوي، وحذّر أن تلك ليست عملية أوتوماتيكية.

أمريكا بلد كبير ولها عدد كبير من القضايا في أصقاع العالم، لكن يجب أن تقوم السلطات الليبية أو نخبها السياسية بتحسيس دوائر صنع القرار في واشنطن بمصلحة أمريكا باستقرار ليبيا، حتى توظف الموارد السياسية اللازمة لتحقيق هذا الهدف…

بل إنه قال إن بريطانيا نفسها تقوم بعمل لوبيات في واشنطن لأشهر طويلة من أجل دعم بريطانيا في بعض القضايا الدولية… ومعنى القول إذا كانت بريطانيا بعظمتها تقوم بذلك فلا جناح على ليبيا الضعيفة مهيضة الجناح أن تفعلها.

وديعة ميليت كانت مدار الحديث مع مساعد ميليت النشيط الدبلوماسي الويلزي جوناثان وريغان في لقائنا الأخير، قبل أن يحزم أمتعته ويتوجه صوب جهة أخرى يخدم فيها مصالح بلده.

في الحقيقة إن لوبيات كثيرة عملت في واشنطن بل حتى لندن وباريس ودفعت عشرات الملايين من مال الليبيين للترويج لهذه الشخصية أو تلك، في واشنطن بوست ونيويورك تايمز والجاردين واللوموند. بل إنهم كتبوا فيها مقالات يطرحون فيها رؤاهم الاستراتيجية، وكأني بهم يتقمصون عباءة كيسنجر أو بريجنسكي… وبعضهم لم يكتب سطراً في صحيفة مدرسية طيلة حياته.

الجميع روّج لنفسه ولم يطرح أحدهم أي مشروع لليبيا لا يكون هو عرابه، وبالتالي كثيراً ما وقعوا في شراك النصابين والمحتالين وضاعت ملايين كثيرة هباء منثوراً.. وتعاملت معها الدوائر الرسمية كاللصوص وقاطعي الطرق والباحثين عن الذهب في الألدواردو.

في نهاية المطاف الولايات المتحدة ليست جمعية خيرية -رغم أن ميزانية المساعدات الأمريكية ضعف الدخل القومي لليبيا- ثم إن السياسي الذي يطلب مساعدة دولية بأسلوب التسول السياسي لا شك أنه مازال في طور البراءة (السذاجة) السياسية، وهو طور طفلي في النمو السياسي سيعقبه طور النضج الذي يؤمن بأن علاقات الدول تحكمها المصالح. لكن هناك مجموعة من المبادئ والقيم التي لها تأثير فائق في السياسية الدولية، وحسبنا ذكر مبدأ حق الشعوب في تقرير المصير الذي يُنسب للرئيس الأمريكي ويلسون الذي أنتج تبنيه كسياسة خارجية للولايات المتحدة موجة عاتية من الاستقلالات الوطنية بعد الحرب العالمية الثانية..

ما يمكن أن تقوم به الولايات المتحدة أو ما يطلبه مَن يؤمنون بقدرة الولايات المتحدة على القيام بدور إيجابي. فقط هو أن تقوم بدور قائد الأوركسترا وتنظم الأصوات النشاز..

الولايات المتحدة وحدها القادرة على قيادة وتنظيم المصالح المتعارضة وتحجيم التدخلات السلبية، بحيث تحافظ ليبيا على كيانها واستقلالها وتحافظ كافة الدول على مصالحها المشروعة في ليبيا دون أن تكون حديقة خلفية لأحد.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى