هويتنا.. إلى أين؟
المهدي التمامي
نحن أناس مهووسون بتحويل كل شيء مختلف عنّا إلى حرب ضدنا؛ مما يجعلنا نؤكد للآخرين، ودون وعي منّا، أزمة ذواتنا حين نطلق كلمة “الغزو/العدو”.
قبل أيام؛ جمعنا لقاء ثقافي بعدد من الأصدقاء، وكان من بين الحضور شخص عاش جزءًا من حياته خارج الوطن وعاد بعد أحداث ثورة فبراير.. كان يقاطع الجميع ويعقب بجمل وعبارات انجليزية لم يكن يفهمها عدد من الحاضرين.. وعندما يمسك بدفة الحوار يتحول كلامه إلى مصطلحات غير مفهومة، وكان من السهل على هذا المثقف الذي أوفدته الدولة كمتفوق بكامل قواه اللغوية؛ أن يجعل حديثه عربيًا في متناول الجميع.
في الحقيقة؛ لا أسوق هذا الموقف مدعاة لكيل الاتهامات بالتبعية والنقص لهذا الشخص، لكن للأسف، تحول ذلك الحديث المشترك إلى جدال رتيب وعقيم.. بسبب الضحالة المعرفية والبلادة الناتجة عن منظومة الإدراك الأهلية للمحيط الشائه سياسيًا ومعرفيًا؛ مما يؤدي في نهاية المطاف إلى شقاق نتيجة للتقاطعات الحتمية بين المزاج المحلي والمزاج الخارجي.
للأسف؛ فإن التعاطي مع مصطلح الهوية مازال مسألة صعبة في ثقافتنا، وهذا راجع لإصرار الكثيرين منا على اختزال الإنسان في بعد واحد.. لقد دأب النظام السابق طيلة 40 عامًا على محاولة ترسيخ هوية واحدة متعنتة، هوية كانت ترفض الإحساس الوطني المشترك إلا إذا جاء وفق هندسة المنظّرين المتصلبة؛ مستنكرة ضرورة العلاقة بالآخر، والتحول الدائم للهوية.
إنها الآيديولوجيا الضيقة ومآلاتها نحو التخلف والانهيار الوظيفي لدوائر الانتماء، واحدة تلو أخرى؛ لأن مسألة النقاء غير موجودة، في ظلّ الهوية المركبة، وهذا ما جعل عددًا من المفكرين العرب، كـ”أدونيس” مثلاً، ينادي عبر مساره التحرري ببطلان الهوية، وأنها عبارة عن نرجسية لا معنى لها، لأننا نعيش في عصر الانفتاح الهائل على كل شيء.
لكن تبقى ضرورة إشباع الهوية مسألة حاضرة، وما “أدونيس” وآخرون إلا أجرام تتحرك في فلك الهوية، حتى وإن تعددت تعابيرهم ونأت عن الإصلاحات المعتادة؛ فمن المعروف أن كلّ عقل هو عبارة عن حامل لمجموعة أفكار؛ وهذه الأفكار بالتأكيد هي نتيجة لتأثير معين نستطيع أن نجعل الغزو الثقافي مقابلا له، وإذن فإن كلّ فكرة لدينا هي نتيجة لنوع من أنواع الوعي، والأكيد أنها مشكلة الاختلاف، والسبب الرئيس في مثل هذه الأفكار.
عندما تكون الاختلافات جوهرية ينشأ العدو؛ فالتفكير العدائي في أساسه بين أي طرفين هو ارتباط الاختلاف بمبدأ الخير والشر.
وهذا ما يراه “فيلهو هارلي” من أن فكرة العدو تنبع نفسيًا من قيام جماعة ما بتحديد شرّها بنسبته إلى (أنتم) أو آخرين ومن ثم يصبح أنتم (الآخر) هم العدو.
أما من الناحية الاجتماعية؛ فإن العدو نتاج مشترك، وليس ظاهرة فردية ينجزها شخص بمفرده.
وما يدعم رأي “هارلي” هو أن الاختلاف الثقافي، مثلاً، ما هو في حقيقة الأمر إلا اختلاف الموروث والتقاليد بعضها عن بعض؛ فهي، كما نعلم، لا تعبّر عن الحقائق المطلقة والموضوعية كما يرى الجميع.
وربما كان أساس خلق العدو هو الهوية، هذا النقص الأزلي الذي دأبت البشرية على إشباعه؛ ممّا اضطر في كثير من الأحيان إلى وضع العلامات التي تبرز ملامح الطرف الآخر، وذلك كله كي يتحقق التميّز، وفقًا لمبدأ تميز الأشياء بضدها.. لكن ماذا لو قبلنا الانغلاق وجعلنا ما لدينا من معارف هي الأجدر والأفضل؟! سنكون حتما قد تحصّنا بأضعف آليات الدفاع ألا وهي الانعزال عن الآخر تعاليًا معكوسًا في النهاية.