هربت سريعاً كتغريدة
غسان شربل
تنزف السنة آخر أيامها. تهرم كرجل بدد رصيده. يفلت الوقت من بين الأصابع. سنة صاخبة تستعد لإلقاء نفسها في حفرة الزمن. لن يكون العالم في السنة الجديدة كما كان في المتوارية. هذا طبيعي. لكل سنة نكهتها وألوانها ومشاعلها ومآسيها. ولن يكون العالم كما تشتهيه. لهذا العالم قوانين تحكمه، وهي تختلف عن إرادة العلماء ورغبات الصحافيين وأحلام الشعراء.
في الأيام الأخيرة يتزايد الميل إلى إحصاء الخسائر والأرباح. يهاجر رجل الأعمال إلى الأرقام التي احتشدت في حاسوبه أو الهاتف. يتعلم من الأخطاء أو اللكمات، ويستعد للجولة الجديدة وللفرص التي قد تطل. ويتحسس الموظف أوضاع مؤسسته. إن تداعت فسيتداعى معها. ذهبت أيام الطمأنينة. أيام الاسترخاء في المكاتب بانتظار موعد التقاعد. عالم سريع ومتغير ومتقلب. في آخر السنة الأرقام كالسيف. الأرقام لا ترحم.
قصة الصحافي مختلفة. يعمل في حقول الآخرين لا في حقله. ينقل الأخبار والأحداث والقراءات والتحليلات. أقصى ما يستطيع أن يفعله هو أن يكون شاهداً أميناً في النقل. مهنة شديدة الارتباط بالأحداث والتطورات والمفاجآت لا بإرادة من يمارسها. أكاد أقول إنها مهنة سيئة. الصحافي المحترف هو جاسوس جيد. إذا زار مدينة يروح يتحرى عن أعمق أوجاعها. إذا التقى سياسياً تراوده رغبة في إخضاعه لاستجواب طويل. وفي المقهى في المدينة الغريبة يصيخ السمع لما يدور على طاولات الآخرين. العزاء الوحيد أن هذا الجاسوس يرفع تقاريره إلى القارئ. إلى هذا المستبد الذي يصعب إرضاؤه.
تلفظ السنة أنفاسها. كان الحصاد مختلفاً بين هذه الدولة وتلك. كانت قبل كل شيء سنة دونالد ترمب. أطل في بداياتها وترك بصماته على مسارها. حفنة كلمات منه على «تويتر» يمكن أن تدفع العالم إلى حبس أنفاسه. يمكن أن تقلق منطقة. وأن تثير مخاوف حاكم. وهو يحب الإثارة. رئيس أميركي من قاموس مختلف. رئيس بأسلوب مغاير. وحين يختار الأميركيون رئيساً عليك أن تتعايش معه. وأن تعتاد على العواصف التي يطلقها. وسواء أحببته أم كرهته فإنه الملاكم الكبير في الحلبة. إنه القائد الأعلى لأقوى جيش في التاريخ. إنه رئيس الاقتصاد الأول في العالم. ولا بد من أن تأخذ حساباته في الاعتبار حين تجري حساباتك. كانت أميركا دائماً قوة كبرى ومشكلة كبرى. كأنها كوكب مختلف في هذا الكوكب.
وكانت سنة فلاديمير بوتين. أعلن انتهاء «رحلته» السورية بالانتصار على الإرهاب. بارع في قطف ثمار مغامراته وقطف ثمار تضحيات الآخرين أيضاً. يذهب الآن إلى الانتخابات مطمئناً. تراوده رغبة عميقة في الفوز في صورة صانع السلام في سوريا. لقد دفعت المعارضة السورية ثمناً باهظاً لرغبته في تصفية الحسابات على الملعب السوري مع «داعش» ومع المعارضة السورية والغرب أيضاً.
وكانت سنة الرئيس الصيني أيضاً. مؤتمر الحزب كان فرصته الذهبية. حظي بتكريس غير عادي لزعامته وأفكاره، وهو ما بخل به الحزب حتى على دينغ هسياو بينغ، الرجل الذي امتلك شجاعة فتح النافذة بعدما تمدد ماو تسي تونغ في ضريحه. لا يزال ماو نائماً في ذلك الضريح. لكن الصين اعتنقت أفكاراً لا تشبه أبداً وصفاته القديمة التي حشرها في «الكتاب الأحمر» باستثناء الاحتفاظ بالحزب الواحد كآلة سلطة واستقرار واستمرار.
لم تكن السنة الأوروبية عادية. أظهرت الانتخابات الألمانية قدراً من الشيخوخة في زعامة المستشارة الشجاعة. سنة تيريزا ماي لم تكن سهلة أبداً. مفاوضات الطلاق مع الاتحاد الأوروبي شاقة وباهظة. اتخذ البريطانيون قرار النزول من القطار الأوروبي من دون التبصر طويلاً في العواقب. وفي فرنسا يجلس شاب أربعيني في مكتب شارل ديغول محاولاً دفع بلاده إلى المستقبل، والاحتفاظ لها بدور بارز، رغم تواضع الإمكانات وانحسار الحجم أمام التفوق الأميركي والصعود الآسيوي. عاقب الإرهاب أوروبا التي فتحت صدرها لأمواج اللاجئين. استغل اليمين المتطرف الفرصة وعزف على المخاوف من ضياع الهوية. ضاقت بعض المجموعات بالثياب الوطنية، وتعلقت كاتالونيا بحلم القفز من القطار الإسباني.
كانت السنة، سنة ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان. ففي ظل نهج الملك سلمان بن عبد العزيز أطلق الأمير الشاب ورشة من الإصلاح استناداً إلى رؤية لا تقل عن قرار كبير بفتح النافذة على المستقبل، في مجتمع يشكل الشباب الأكثرية الساحقة بين أبنائه. وفي حفنة أشهر انتقل المجتمع السعودي إلى معركة التنمية وبناء المستقبل وتقليص الاعتماد على النفط. معركة أحلام مدعمة بالأرقام. شعر الشباب السعوديون بقدرتهم على صناعة مستقبلهم ومستقبل بلادهم. ونتائج هذه المعركة لا تعني السعودية وحدها، ذلك أن النجاح في ضرب الإرهاب واقتلاع جذور التطرف، سيترك آثاره بالتأكيد على بلدان كثيرة في العالم العربي والإسلامي.
حيدر العبادي. رجل محظوظ. قرار العالم بطي صفحة «داعش» مكّنه من تحقيق انتصار يضاعف حظوظه في الانتخابات المقبلة. يستطيع القول ببساطة إن الجيش الذي انهار في عهد سلفه وغريمه نوري المالكي انتصر في عهده، وتمكَّن أيضاً من «تأديب الأكراد»، وهو كان الحلم الكبير لدى المالكي. ولم يفت العبادي أن يستضيف تحت عباءته «الحشد الشعبي»، رافعاً في الوقت نفسه شعار حصر السلاح بيد الدولة.
تلقي السنة الهاربة بنفسها في حفرة الزمن. يودعها العربي حالماً أن تكون المقتربة أقل إيلاماً. يريد العربي ما يريده أي إنسان طبيعي على هذا الكوكب. يريد دولة طبيعية بمؤسسات جدية. دولة لا يأكلها الفساد، ولا تلتهمها الميليشيات. دولة تقود معركة التنمية وتتولى تحديث التعليم وتعزيز قيم التقدم والانفتاح وقبول الآخر. حان وقت الطلاق مع الفشل والأفكار المعتمة. لن نغرق في اليأس رغم وجود ما يبرره في خيام اللاجئين والدول المستباحة. نريد الاعتقاد أن هذا الانحدار الطويل سيتوقف ذات لحظة. وأن العربي يستحق الحياة أسوة بالآخرين على سطح الأرض.
هربت السنة الحافلة. عبرت سريعاً كما تعبر تغريدة على «تويتر». كم تغير العالم.
………………….
الشرق الأوسط